لقد اعتنى الإسلام بالنظافة بمفهومها الواسع؛ فهي جزء من حياة المسلم وطابع لا غنى له عنه، وقد سبق الإسلام في ذلك النظم البشرية كلها.
والنظافة التي جاء بالاهتمام بها الإسلام على ضربين: نظافة حسية ونظافة معنوية.
فعلى المسلم الاعتناء بالنظافة على قسميها؛ ففيها السعادة الدنيوية والأخروية.
عناية الإسلام بالطهارة الحسية والمعنوية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونتوب إليه ونستغفره، ونثني عليه الخير كله.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُحِبُّ التوابين ويحب المتطهرين، ونشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، وأشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
فيا أيها المسلمون! اتقوا الله تبارك وتعالى حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله! يا من شرفكم الله بالإسلام! اشكروا الله على هذه النعمة الكبرى، فإن دينكم دين الكمال والشمول، لم يترك خيراً للعباد وصلاحاً لهم في المعاش أو المعاد إلا أمر به وحثَّ عليه، ولا شراً أو ضرراً يعود عليهم في دنياهم وفي عقولهم وأجسادهم إلا حذَّر منه ونهى عنه، ولقد كان رفع الحرج وإحلال الطهر والنقاء من القواعد والمعالم التي جاءت بها شريعة الإسلام، قال تعالى: “مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” (سورة المائدة- الآيات 6:5).
وقد جاءت هذه الحكم والقواعد والأسرار في ختام آية الأمر بالوضوء في سورة المائدة، تنبيهًا لما لهذا الحكم العظيم من آثارٍ في حياة المسلم.
إخوة الإيمان! لقد عني الإسلام بالطهارة المعنوية والطهارة الحسية، واهتم بنظافة الباطن والظاهر، وقد قسَّم أهل العلم الطهارة إلى أربع مراتب:
الطهارة الحسية
وهي: طهارة الظاهر من الأحداث والأنجاس والفضلات، وقد جعل الإسلام هذه المرتبة، جزءًا من حياة المسلم، وطابعًا لا غنى له عنه، وعملاً لا ينفك منه في اليوم والليلة، ويتولى الوضوء الشرعي كبر هذه المرتبة، وفيه من الأجر العظيم والثواب الجزيل أضعاف ما له من الآثار الحسنة على نظافة المسلم، فقد جعله النبي (صلى الله عليه وسلم) سبباً لمحو الخطايا ورفعة الدرجات، كما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول (الله صلى الله عليه وسلم): “من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره” (مسلم).
بل قد جعل المصطفى (صلى الله عليه وسلم) الطهور شطر الإيمان، كما في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
الله أكبر! يا لِسعة فضل الله، وإكثاره طرق الخير لعباده! ولكن أين المحتسبون المتبعون الذين يقومون بهذا العمل إخلاصاً لله، ورغبةً فيما عنده، واتباعاً لسنة المصطفى (صلى الله عليه وسلم) في ذلك؟! حيث قد زيَّن الشيطان -أعاذنا الله منه- لبعض الناس الزيادة في الوضوء، فيدخلهم في الوهم والوسوسة، وقد يجرهم إلى التقصير في ذلك، فعدم التنزه من البول والخارج، وعدم غسل الأعضاء كاملة، أو ما يفعله بعض الجُهَّال من التيمم مع وجود الماء، أو إمكان الحصول عليه.
ومن عناية الإسلام بالوضوء: أنه جعله مرتبطاً بأهم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الصلاة، فهو شرطٌ لصحتها، ومفتاحها، ومقدمتها.
ومن مظاهر عناية الإسلام بطهارة الظاهر: إيجابه الإغتسال عند حدوث موجباته، كالجنابة، والحيض والنفاس بالنسبة للمرأة، كما شرع الإسلام الاغتسال في حالاتٍ: كالجُمع والأعياد، والإحرام، وحضور الاجتماعات العامة، ومن ذلك حثه على التطيب، والسواك والختان، وأخذ الزينة عند حضور المساجد والصلاة.
ومن ذلك -أيضاً- خصال الفطرة التي أفصح عنها حديث المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، كما في حديث عائشة (رضي الله عنها) عند مسلم وغيره: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء -يعني: الاستنجاء- } قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة” (مسلم).
إخوة الإسلام! كما حرص دينكم في هذا الجانب على ما يتصل بحياة الناس اتصالًا مباشراً، ومن ذلك: نهي الإسلام عن التبول في المياه الراكدة، والبراز في الطرق والظل وموارد الناس، كما أمر الإسلام بنظافة البيوت والطرق والطعام والشراب، واللباس والمرافق العامة، وجعل إماطة الأذى عن الطريق شعبةً من شعب الإيمان، وأخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: {أن الله جميلٌ يحب الجمال} وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالتطهر، فقال: “وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ” (سورة المدثر- 4).
كما مدح سبحانه أصحاب رسوله (صلى الله عليه وسلم)، فقال سبحانه وتعالى: “فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.” (سورة التوبة- 108:9).
الطهارة المعنوية
ولها ثلاثة مراتب:
المرتبة الأولى: طهارة الجوارح من الذنوب والآثام.
المرتبة الثانية: طهارة القلب من الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة.
المرتبة الثالثة: تطهير السريرة عما سوى الله سبحانه وتعالى.
وهذه المراتب الثلاث، هي في الطهارة المعنوية، طهارة الباطن، التي هي القاعدة والأساس، فلا خير في حسنٍ ظاهر، مع فسادٍ باطن، وكم من جميل منظره خبيثٌ مخبره.
أُمَّة الطُهر والنظافة! إن النظافة الحقيقية، نظافة العقيدة من كل ما يشوبها من ضروب الشرك بالله، والتعلق بغيره، وذلك يتطلب الإخلاص لله، وتجريد المتابعة لرسوله (صلى الله عليه وسلم)، ونبذ كل ما يخالف هذا المنهج من أوهام أو ضلالات، كما أنها نظافة الفكر وصيانته من الأفكار الملوثة، والتصورات الفاسدة، المناهضة للإسلام، وهي تعني: طهارة القلب ونظافته، من الغل والحقد والحسد والبغضاء والرياء والنفاق والكبر والغرور، وطهارة اللسان من الكذب والزور والغيبة والنميمة والبهتان.
كما أنها تعني: نظافة الخلق والسلوك من كل ما يُعكِّر صفو الأخوة، ويكون سبباً في التقاطع والجفاء، وهي -أيضاً- نظافة المعاملات، من الحيل الممنوعة، والمكاتب المحرمة، التي تأتي عن طريق الظلم والغش والربا، والرشوة والتزوير وسواها، وهي -أيضاً- نظافة الجوارح، كالسمع والبصر من النظر والسماع المحرم.
___________________________
المصدر: من خطبة مفرغة للشيخ عبدالرحمن السديس.
[ica_orginalurl]