الصوم عبادة جليلة وشريعة سماوية
الصوم عبادة جليلة لم تخل منها شريعة من الشرائع السماوية إذ ترقى بها النفوس وتصفو وتزكو. وقد دارت كثير من الأبحاث المعاصرة حول فوائد الصوم واختلافه باختلاف الثقافات. ولما كان الصوم يحتل مكانة سامية فى الإسلام وفى كثير من الثقافات قد يشتاق القارىء لمعرفة كيفية الصوم عند الأمم السابقة للإسلام سيما عند المسيحيين أو النصارى مقارنة بما فى الإسلام.
أما الإسلام فقد جاءت تفصيلات الصوم فيه وذاعت. والصوم فى الإسلام هو: “الإمساك عن الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس”.
فى الواقع لم يأت كثير تفصيل فى القرآن ولا فى الكتاب المقدس عن كيفية صيام المسيحيين أو النصارى، ولكن جاءت بعض الإشارات للصوم فى الكتاب المقدس.
مفهوم الصوم لدى المسيحيين
لقد خضع مفهوم الصوم لدى المسيحيين على مر السنيين -كما خضعت كثير من نصوص الإنجيل- للتحريف والتأويلات الزائفة، وها هى محاولة نستكشف فيها السلسلة التاريخية للصوم عند المسيحيين وما عليه الإسلام. لقد ذكر الكتاب المقدس الصوم كثيرا لكن بشىء من الإجمال، ولم يدل بتفصيلات وغاية ما ورد فقط الحث عليه ومن ذلك: ما جاء فى سفر يهوديت (4: 12):
“اعْلَمُوا أَنَّ الرَّبَّ يَسْتَجِيبُ لِصَلَوَاتِكُمْ إِنْ وَاظَبْتُمْ عَلَى الصُّوْمِ وَالصَّلَوَاتِ أَمَامَ الرَّبِّ”.
وورد ما يشير إلى ثمة صفة شبيهة بالإسلام فى الصوم وهى الجوع: ففى (إنجيل متّى 4: 2) عن المسيح:
“فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا”.
وبالنظر إلى أحوال المسيحيين اليوم مقارنة بسابق عهدهم فى تجربة الصوم فإن الأمر قد تغير كثيرا فلا يكاد يجزم أحدهم بصفة معينة للصوم جاء بها الإنجيل.
بل نجد منهم من يزعم أن تفصيل أمر الصوم قد وكل إلى المجامع الكنسية لتأويله والافتاء فيه. يقول أحدهم: “لا يحدد لنا الكتاب المقدس أوقاتاً أو شهوراً للصّوم. فقد تُرك الأمر للضمير الشخصي. وتبعاً لنموذج الكتاب المقدس، قد تقوم جماعة من المسيحيين أو الكنيسة بتحديد وقتٍ للصّوم من أجل أمرٍ هامٍ في حياة المؤمنين“.
يقول الأستاذ رشيد رضا: “وأشهر صومهم وأقدمه: الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح وهو الذي صامه موسى، كان يصومه عيسي عليهما السلام والحواريين، ثم وضع رؤساء الكهنة ضروبًا أخرى من الصيام منها الصوم عن اللحم وعن البيض واللبن وكان الصوم المشروع عند الأولين منهم كصوم اليهود يأكلون في اليوم والليلة مرة واحدة فغيروه وصاروا يصومون من نصف الليل إلى نصف النهار (تفسير المنار: 2/ 144 وانظر: النصرانية والإسلام: م/الطهطاوي ص 88.).
ويقول أحمد شلبى: “معنى الصوم عند النصارى: الامتناع عن الطعام من الصباح حتى بعد منتصف النهار ثم تناول طعام خالى من الدسم المسيحية: (د/ أحمد شلبي، ص 235).
ويؤكد الإمام ابن القيم مخالفة النصارى لتعاليم المسيح -عليه السلام- في هذه الفريضة فيقول: (والمسيح ما شرع لهم هذا الصوم الذي يصومونه قط ولا صامه في عمره مرة واحدة ولا أحد من أصحابه، لا صام صوم العذارى (مدته: خمسة عشر يومًا تبدأ من شهر مسرى وهو من الشهور القبطية القديمة وهو أول شهور فيضان النيل) في عمره ولا أكل في الصوم ما يأكلونه ولا حرم فيه ما يحرمونه) (وانظر: المسيحية د/أحمد شلبي، ص 235.).
ويقرر العلامة البغدادي أن الصوم بهذه الطريقة بدعه ابتدعها رؤساؤهم وأنه بهذا المفهوم لم يرد في التوراة ولا في الإنجيل فيقول: (اخترع رؤساء النصارى في مجامعهم “البهريز” وهو عبارة عن ترك أكل اللحوم إلا السمك بسائر أنواعه، وأكل الزيت مع كافة المأكولات وشرب الماء والدخان والقهوة والخمرة) (الفارق بين المخلوق والخالق: ص 46.). (والبهريز محض تلاعب وعبث بالدين وخروج عن امتثال أوامر رب العالمين الصريحة بالتوراة -الأصلية-، ولم نر في الأناجيل الأربعة لا صراحة، ولا إشارة أن هذا الصوم بهذا المعنى الذي تعتادونه أيها المسيحيون” (الفارق بين المخلوق والخالق: ص 46).
وهذا الأمر خطير كيف لعبادة جليلة مثل الصوم قد حازت جانبا من أركان دين الإسلام الدين الخاتم للبشرية ولا نجد لها تفصيلا فى الأناجيل!
ولعل هذا يفسر التخبط الواضح فى كيفية الصيام لدى المسيحيين واختلاف الكنائس فيما بينها. فقد جاء فى موسوعة الويكيبديا عن الصوم الكبير لدى المسيحيين:
“الصوم الكبير (باللاتينيّة: Quadragesima؛ باليونانيّة: Μεγάλη Νηστεία) هو أحد فترات الصيام حسب الديانة المسيحية يبدأ في يوم أربعاء الرماد حسب الطقس اللاتيني، اما حسب الطقس الشرقي يبدأ يوم الاثنين. وتستمر فترة الصيام المسيحية إلى حوالي ستة أسابيع قبل عيد القيامة. الغرض التقليدي من الصوم الكبير هو إعداد المؤمن من خلال الصلاة، والتوبة من الذنوب، والصدقة وممارسة أعمال الرحمة. ويستمر زمن الصوم المسيحي خمسين يومًا، (40 يومًا هي أيام الصوم التي تسبق أسبوع الآلام فضلًا عن أسبوع الآلام بما فيه سبت النور بالإضافة إلى أربعة أيام تعويضية عن أيام الآحاد التي يتم الإفطار فيها وهذا هو المتعارف عليه في أغلب الكنائس)، وتختلف تقاليد الصوم المسيحي بحسب الطوائف والطقوس والليتورجيات؛ ويعد يوم أربعاء الرماد والذي يستمد تقاليده من الطقوس المسيحية الغربية، أول أيام الصوم وتتنوع تقاليد الصوم الكبير في العالم المسيحي بين الإمتناع عن الطعام ساعات محددة أو الامتناع عن ألوان محددة من الطعام؛ أما الكنيسة الرومانية الكاثوليكية وغيرها من الكنائس المسيحية الغربية فتفرض على أتباعها إنقطاع عن اللحوم ومنتوجات الحليب والأجبان يومي الأربعاء والجمعة في حين أنّ الكنائس الأرثوذكسية الشرقية وغيرها من الكنائس ذات التقاليد المسيحية الشرقية تفرض انقطاع عن اللحوم لمدة أربعين يومًا. وإلى جانب الصلوات والإنقطاع عن الطعام تقام رتب وطقوس خاصة في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية بمناسبة الصوم الكبير”.
إذن فأمر الصوم لدى النصارى يختلف كثيرا عما ورد فى الكتاب المقدس وتغير بتغير فتاوى المجامع الكنسية على مر الأزمنة والعصور. واستقر أخيرا على أنواع كثيرة مختلفة من الصيام ففى الشرق: “يصوم المؤمن بالمسيح بامتناعه أو إمساكه عن تناول الطعام أقلّه اثنتي عشرة ساعة في اليوم، يقضيها دون طعامٍ ودون شراب. هذه الفترة الزمنية تبدأ، عادة، من بداية اليوم وحتى انقضاء الاثنتي عشرة ساعة، ولكن هذه ليست قاعدة إذ يوجد مسيحيون يصومون وقتاً أطول.”[2] ويرى فريق من النصارى “أنّ المسيح عليه السلام لم يفرض عليهم صيامًا إلا الصوم الكبير (صوم يوم الكفارة)” السابق لعيد الفصح (أ. عبد الرزاق رحيم صلال: العبادات في الأديان السماويّة، [ص:182]).
وقد ذكر الدكتور علي الخطيب: في كتابه “الصيام من البداية حتى الإسلام”، ([ص:151]، ط 1، 1980م، المكتبة العصرية – بيروت). بحثا ما ملخصه:
[ويمكن تقسيم الصيام حسب الطوائف النصرانية إلى ثلاثة أقسام هي: 1- الصيام في الكنيسة الكاثوليكية: “ويبدأ عندهم في منتصف الليل إلى نصف النهار، ويلتزم به مَنْ بلغ السابعة من العمر، وينتهي بالستين للرجال، والخمسين للنساء. والصيام اللازم في الكاثوليكية: هو الصيام الكبير، ويمتنعون عن أكل اللحم والألبان والبياض (البيض، والجبن، والحليب، والزبد) يومي الأربعاء والجمعة، لكنهم يلتزمون -اليوم- صيام يوم واحد” “وقد أعطت الكنيسة الكاثوليكية السلطة لرجال كنيستها بإعفاء من رغب من أتباعها من الواجبات الدينية ومنها الصيام، مما مكنها من فرض أصوام متفاوتة بجانب فرائض أخرى على المتهمين بجرائم متفاوتة، يمارسونها عدة سنوات لا شهورًا وأيامًّا، وهكذا بقي في قانون الكنيسة العالمي (الكاثوليكي) الصيام في جميع أيام الأحد ويوم القديس (مرقس) وأسبوع الفصح وأيام الطلبات (البركات) وجميع أيام السبت والجمعة” 2- الصيام في الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية: تتفق الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية مع نظيرتها الكاثوليكية في الصوم الكبير باعتباره أهم وأعمّ أنواع الصيام ومدته خمسون يومًا أو خمسة وخمسون. ولها أصوام أخرى أهمها: أ- صوم الأربعين يومًا؛ ويصومون قبلها أسبوعًا سموه أسبوع الاستعداد وبعده أسبوعًا آخر سموه أسبوع الآلام. ب- صوم الميلاد؛ ومدته أربعون يومًا من 25 من نوفمبر إلى 6 من يناير. ج- صوم العنصرة (الرسل)؛ وتمارسه الكنيسة منذ عصر الرسل ليس عدد محدد من الأيام، ويترك أمره بيوم “أحد العنصرة”. فإذا زادت أيام الصوم، وإذا تأخر انقضت وتنتهي تقريبًا في 11 أيلول. د- صوم العذراء؛ ومدته خمسون يومًا. هـ – صوم نينوى؛ ومدته ثلاثة أيام، ويعتقدون أن يونس عليه السلام قد بدأ هذا الصيام ببطن الحوت (يونان 1: 17). و- وللكنيسة صيام آخر متفاوت بين اليوم والثلاثة: ويُسمّى صيام البراموت (الاستعداد) (القس شنودة يوحنا: الصوم في كنيستنا القبطية الأرثوذوكسية)، 3- الصيام في الكنيسة البروتستانتية: وتترك الكنيسة البروتستانتية مسألة الصوم الشخصي الذي يقرر فيه الصائم لنفسه الصوم، وكيفيته، وَفْقَ رغبته الشخصية النابعة عن إحساسه الذاتي، فإذا ما صام وأفطر يحلّ له أكل ما يشتهيه من المأكولات، فهو عندهم مستحب وليس بواجب. وتختلف الكنيسة البروتستانتية عن الأرثوذكسية القبطية؛ بأن الأولى تنكر الصيام والثانية تتمسك به” 4- صيام طائفتي الأرمن والقبط: إنّ أشدّ أنواع الصيام عند النصارى هو عند الأرمن والقبط: إذ يصومون الأربعاء والجمعة من كل أسبوع إلا ما وقع منها بين الفصح والصعود، ويصومون عشرة أسابيع من كل سنة.]أ.هـ.
العلاقة بين الصوم والأخلاق
ومما تجدر الإشارة إليه ارتباط مفهوم الصوم فى الإسلام كثيرا بالأخلاق بخلاف الكتاب المقدس الذى أشار إشارة قليلة إلى ذلك فى نهى المسيح عن التشبه بالفريسيين فى ريائهم بالصوم، حيث أورد إشارة خافتة إلى ذلك،
ويختلف الأمر فى الإسلام حيث أبرز القرآن والحديث النبوى العلاقة بينهما كثيرا: ففى القرآن يقول الله تعالى:
“ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”(2:183).
وفى الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
“(قال الله عزوجل: كل عمل بن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم” رواه البخاري ومسلم.
وعن علقمة والأسود رضي الله عنهما قالا:
“كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شباباً لا نجد شيئاً، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)” متفق عليه. (الباءة) في اللغة الجماع، والتقدير: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤن النكاح. وقيل: المراد بالباءة هنا مؤن الزواج. و(الوجاء) الوقاية والحماية.
يقول الغزالى: “اعلم أن الصّوْم ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. أما صَوْم العموم: فهو كفّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة كما سبق تفصيله. وأما صوم الخصوص: فهو كفّ السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الهمم الدنِيَّة والأفكار الدنيوية، وكفّه عما سوى الله عزّ وجل بالكلية” (أبو حامد الغزالي: أسرار الصوم، [ص:40]، تحقيق ماهر المنجد، ط 1، 1417هـ / 1996م، دار الفكر – دمشق).
مراجع
رمضان مصطفى الدسوقى حسنين، جهود علماء المسلمين في نقد الكتاب المقدس من القرن الثامن الهجري إلى العصر الحاضر «عرض ونقد».رسالة دكتوراة مقدمة لقسم الدعوة والثقافة الإسلامية بكلية أصول الدين والدعوة – جامعة الأزهر – فرع المنصورة / 1424 هـ – 2004.
عبد الرزاق رحيم صلال: العبادات في الأديان السماويّة
د/أحمد شلبي: المسيحية
موقع مسيحى.كوم
[ica_orginalurl]