د. محمد أبو الفتح البيانوني
أود أن أناقش شبهة من قَصَر معنى الدعوة على التبليغ والبيان فحسب، ونظر إلى التعليم والتطبيق نظرته إلى أمور خارجة عن الدعوة، مستشهدا لذلك بمثل قوله تعالى: {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ} (المائدة: 99) وقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} (النور: 54)، وفاهما أن هذه الآيات وأمثالها تحصر عمل الرسل الكرام والدعاة في جانب التبليغ فقط.
وللإجابة عن هذه الشبهة أقول:
إن هذه الآيات القرآنية وأمثالها وردت في سياق إعراض الناس عن الدعوة؛ فحيث يُعرض المدعوون عن الدعوة لا يُكلَّفُ الرسل الدعاة إلا بالبيان والتبليغ فقط، أما الهداية فإنما هي على الله سبحانه وتعالى، ولا يملكها إلا هو.
أما حين يستجيب المدعوون للدعوة، ويُقبل الناس على الإسلام؛ فعلى الداعية تعليمُهم دينهم، والسعي لتطبيق هذا الدين في حياتهم، كما كان يفعل النبي –صلى الله عليه وسلم- مع مَن استجاب له في مكة المكرمة؛ حيث كان يجتمع بهم في دار الأرقم ابن أبي الأرقم ليعلمهم دينهم ويزكيهم، وكما كان يفعل إذا أسلم شخص عنده، فيقول لأصحابه: “فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن”.
ولو أمعنا النظر في الآيات نفسها التي استدل بها المشتبه، لرأينا معظمها يصرح بهذه الحقيقة، ويعلق حصر عمل الرسول بالبلاغ بإعراض الناس وتوليهم، كما جاء في قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}، و{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ}، و{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ}.
وبهذا تجتمع دلالة هذه الآيات القرآنية، مع دلالة الآيات الأخرى التي نصت على أعمال أخرى للرسول الكريم من تلاوة لآيات الله، وتزكية وتعليم للكتاب والحكمة، كما تنسجم مع الواقع العملي لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، وواقع دعوة صحابته وأتباعه من بعده.
مواقف خاطئة
ولقد أسهبت في دفع هذه الشبهة، وحرصت على توضيح عمل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- والدعاة من بعدهم؛ نظرا لما ترتب على مثلها من مواقف خاطئة ونظرات قاصرة لعمل الدعوة في العصر الحاضر.
فقد قَصَر بعض إخواننا الدعاة عملهم على جانب حتى عُرِفوا به، ظانين أنه عمل الأنبياء فحسب؛ بل نظر بعضهم إلى غيرهم من الدعاة الذين يُعنون بالعلم والتعليم، أو بالتطبيق والتنفيذ نظرة استخفاف ونقد، كما نظر بعض المعتنين بالعلم والتعليم، أو التنفيذ والتطبيق لأولئك المبلغين نظرة استخفاف أيضاً، فوجهوا لهم النقد الشديد في توجههم ودعوتهم، دون أن يفهم بعضهم بعضاً، ويقدر بعضهم قدر بعض، مما زاد المسلمين بعداً وفرقة.
ولو علم هؤلاء وهؤلاء أنه يَسَعُ الداعية أن يعمل في الميدان الذي يختاره، والعمل الذي يناسبه من أعمال الدعوة مراعياً في ذلك إمكاناته واستعداداته من جهة، أو مقدماً أولوية على غيرها في نظره من جهة أخرى، على ألا يقصر مفهوم الدعوة الإسلامية على عمله واختياره، أو ينظر إلى من خالفه في ذلك نظرة ابتداع أو خروج عن عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فالميدان الدعوي واسع، وجوانب العمل متعددة، والمسؤولية أكبر من أن تقوم بها جماعة من الجماعات، والثغرة أوسع من أن يَسُدَّها عملٌ من الأعمال.
فلو علم الطرفان هذه الحقيقة، وفهموها فهماً متوازناً، لشكر بعضُهم جُهدَ بعض، ونظر كل طرف إلى العاملين الآخرين في أي مجال دعوي نظرته إلى أعوانه وشركائه.
المودودي والتبليغ والدعوة
وأختم حديثي عن هذه المسألة بمقولة كريمة، وحكمة عظيمة سمعتها شخصيا من الداعية المشهور الأستاذ أبو الأعلى المودودي –رحمه الله– وذلك قبل وفاته بسنوات في مكة المكرمة حيث زرته في فندق “شبرا” في مكة المكرمة، وسألته في جلسة خاصة عن رأيه في “جماعة التبليغ” التي نشأت في الهند، وانتشرت في كثير من بقاع الأرض، والتي سمعتُ من بعض أفرادها نقدا لعمل الأستاذ المودودي، وأنه ترك الدعوة، وعمل في السياسة والحكم، فقال لي بلسان عربي بطيء كلماتٍ قليلةً تصلح درسا لجميع الدعاة، وأنموذجاً صالحا لنظرة كل عامل وداعية إلى غيره، قال: “إنهم يَسدُّون عنا ثغرة لا نستطيع سدَّها، ولا نَنْتَقِدُهم، ومنهم من يَنْتَقِدُنا”.
ولا نستطيع أن نصـل إلى مثل هذا التوازن في النظرة إلى الآخرين، إلا إذا فهمنا الدعوة الإسلامية فهماً واسعاً شاملا لجميع أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعل تعريفنا الذي توصلنا إليه في تعريف الدعوة يُساعد على ذلك التصور الشامل، والمفهوم الصحيح، والله المستعان.
—
* المصدر: كتاب “المدخل إلى علم الدعوة”.
[ica_orginalurl]