إن الربا مما أجمعت الشرائع السماوية فى أصولها الصحيحة غير المبدلة على تحريمه ومقته لما فيه من استغلال فاحش لحاجة الآخرين. ويهدف هذا المقال إلى استكشاف أوجه التمايز بين التشريع الإسلامى والمسيحى بشأن الربا وحرمته. ويلحظ الباحث فى هذا الصدد تلك الأوجه فيما يلى:
أولا: الشمول والمنهجية
يتسم التشريع الإسلامى فى توصيفه للربا وأحكامه بالشمولية والمنهجية الدقيقة المحكمة من حيث تأصيل معانى الربا وأقسامه وتفصيلات كل نوع خلافا للتشريع المسيحي الذى خلا من ذلك واكتفى ببيان حرمة الربا وحسب، وتفريق العهد القديم بين جواز الربا بين اليهودى والأجنبى وعدم جوازه مع الأخ اليهودى.
يحرم الربا فى الإسلام مع المسلم وغيره ففى القرآن جاءت النصوص عامة بتحريمه:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ “[3: 130]،
وقال – تعالى -:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ” [2: 278-279]،
والربا على نوعين فى الإسلام: ربا الفضل وربا النسيئة
أما ربا الفضل فيمثل له درهم بدرهمين، ودينار بدينارين وصاع من البر (قمح) بصاع ونصف من البر. وهذا النوع من الربا جاءت السنة الصحيحة بتحريمه ومن ذلك:
“لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء..”. رواه البخاري.
والنوع الثاني: ربا النسيئة: كدرهم بدرهم إلى أجل، وصاع بر (قمح) بصاع بر (قمح) آخر لكن نسيئة، أو فضة بذهب من دون قبض ، أو بر بشعير بغير قبض. وفي السنة: “لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز” .
وقد جاء فى السنة أيضا تفصيل لبعض الأصناف التى يدخلها الربا:
فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ”.
قال ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: “اتفق جمهور الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة على أنه لا يباع الذهب، والفضة، والحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب؛ بجنسه إلا مثلاً بمثل، إذ الزيادة على المثل أكل للمال بالباطل”.
وقد استنبط علماء الإسلام بناء على القياس على علة تحريم هذه الأشياء تحريم أشياء أخرى قد تدخلها الربا لاشتراكها معها فى العلة وإجازة أشياء أخرى لم تشترك معها فى العلة.
أما بالنظر للكتاب المقدس سيما العهد القديم فقد جاءت النصوص على المنوال التالى:
سفر الخروج:
(22: 25) “إن اقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي لا تضعوا عليه ربا”.
(22: 26) “إن ارتهنت ثوب صاحبك فإلى غروب الشمس ترده له”
(22: 27) “لانه وحده غطاؤه هو ثوبه لجلده في ماذا ينام فيكون اذا صرخ الي اني اسمع لاني رؤوف”.
لاويين:
(25: 35) “واذا افتقر اخوك و قصرت يده عندك فاعضده غريبا او مستوطنا فيعيش معك”.
(25: 36) “لا تاخذ منه ربا و لا مرابحة بل اخش الهك فيعيش اخوك معك”.
(25: 37) “فضتك لا تعطه بالربا و طعامك لا تعط بالمرابحة”.
وفى سفر التثنية:
(23: 19) “لا تقرض اخاك بربا ربا فضة او ربا طعام او ربا شيء ما مما يقرض بربا”.
(23: 20) “للاجنبي تقرض بربا و لكن لاخيك لا تقرض بربا لكي يباركك الرب الهك في كل ما تمتد اليه يدك في الارض التي انت داخل اليها لتمتلكها”.
وقد زعم بعض المعلقين على هذه النصوص أنها قد جاءت على وجه التدرج وأن نص العهد الجديد “متي (42:5) مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ” قد أبطل الشرع اليهودى في إباحة الربا مع غير الأخ. يقول الأب انطونيوس معلقًا على النص سفر التثنية اصحاح 23 العدد20:
( لا تقرض اخاك بربا ربا فضة او ربا طعام او ربا شيء ما مما يقرض بربا. للأجنبي تقرض بربا و لكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد اليه يدك في الارض التي انت داخل اليها لتمتلكها)
“كان هذا فى مرحلة روحية بدائية فعليهم أن يقرضوا إخوتهم بدون ربا أما الأجانب الوثنيين. فيسمح لهم بالربا معهم فالله يعلمهم المحبة تدريجياً وأول خطوة أن يحبوا إخوتهم ويقرضوهم دون ربا حتى فى المستقبل يمكن أن يفعلوا هذا مع الجميع ولنلاحظ أن شريعة العهد الجديد “أحبوا أعدائكم باركوا لاعنيكم…” ما كان ممكناً لهذا الشعب البدائى أن يتقبلها. وبالإضافة أن التمييز فى المعاملة بين اليهودى وغير اليهودى يحمل معنى الاستنكار لوثنيتهم فينفروا من عباداتهم (متى 42:5، 12:7 و لوقا 35:6) هذه هى شريعة العهد الجديد شريعة الذين نموا فى الحياة الروحية (المحبة للجميع)”.
ولكن ذلك يتناقض مع قول المسيح “ما جئت لأنقض الناموس بل لأكمل”، فلا يسع المسيحيين إلا إبطال قول المسيح بهذا التأويل أو قبول التشريع اليهودى القائل بإباحة الربا مع غير أتباع ديانتهم. ولما وقع بعض الشراح في هذا المأزق لجأ بعضهم إلى تأويل النصوص الواردة بشأن إجازة الربا مع غير “الأخ” بكونها فى الوثنيين.
ثانيا: السماحة والتيسير
وعلى الجانب الآخر نلمس سماحة الإسلام في تحريم التعامل بالربا بكل صوره وأشكاله مع جميع البشر ونهى الإسلام عن انتقاص الآخرين حقوقهم ولو كانوا على غير ملة الإسلام. ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
“ألا من ظلم معاهدا ، أو انتقصه ، أو كلفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس ، فأنا حجيجه يوم القيامة” . رواه أبو داود .
ومن شمول الإسلام أنه يحرم حتى الوسائل المفضية إلى الربا:
“عَنْ جَابِرٍ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ”.
النصرانية والربا اليوم
لقد تغير الموقف النصرانى من الربا اليوم فقد أطبقت كثير من الكنائس على إباحته لظروف العصر رغم النصوص العامة القاضية بتحريمه في الكتاب المقدس وها هو رد من بعض مفكرى النصرانية على جواز التعامل بالربا في العصر العاصر: ” قد كان الربا محرّماً في العصور القديمة عندما كان طلاب القروض عادة هم الفقراء والمحتاجين، والدائنون من الأغنياء والميسورين، بربا واستغلال المحتاجين. أما اليوم فقد تغيّرت الأحوال ولم يبقَ عامة طلاب القروض من المحتاجين الذين يستدينون من الأغنياء لسد احتياجاتهم. إذ انعكس الوضع وأصبح الأغنياء ومؤسسو الشركات والبنوك وكبار التجار وشركات التأمين وحتى الدول الكبيرة والصغيرة تتعامل بالقروض مع الفوائد، وذلك سعياً وراء الإنتاج وتنمية الثروة. وقد وُضعت بهذا الصدد أنظمة وقوانين مختلفة للتعامل بالمال وإقراضه، ولاستيفاء فوائد معينة على القروض وأصبح معظم الناس يتعاملون مع البنوك ويودعون نقودهم في المصارف لقاء فوائد معينة. ولا نعتقد أن هذا النوع من الربا أو الفائدة محرّم في الكنيسة . ولا بد من الإشارة إلى أن هناك آراء مختلفة لمجتهدين كثيرين حول هذا الموضوع. وللإيجاز نكرر بأن التعامل بالفائدة أو الفائدة الفاحشة بين الاخوة والأصدقاء الذين يضطرون إلى الاقتراض من بعضهم البعض لسد العوز، هو أمر غير مرغوب فيه، وهذا ما تحرّمه الكنيسة بحسب الاعتقاد السائد، إذ يجب أن يتعامل الناس مع بعضهم البعض بحسب مبدأ المحبة ومساعدة المحتاج، وهذا ما يعلمنا إياه السيد المسيح” .
لا ريب أن هذا الاتجاه ينافى تعاليم الكتاب المقدس والفطرة الإنسانية التى تقضى بحرمة كل ما يؤدى إلى استغلال حاجة الآخرين وهو ما عليه دين الإسلام الدين الخالد بتعاليمه وشرائعه السمحة.
[opic_orginalurl]