د. زغلول النجار
في الوقت الذي ساد فيه الاعتقاد الخاطئ بأزلية الكون بلا بداية ولا نهاية، وعدم محدوديته إلى ما لا نهاية، وسكونه وثباته (أي عدم حركته، على الرغم من حركة بعض الأجرام فيه)، بمعنى أن هذا الكون اللانهائي الساكن كان موجودا منذ الأزل، وسيبقي إلى الأبد، وهي فرية أطلقها الكفار والملحدون من بني البشر في محاولة يائسة لنفي الخلق، والتنكر للخالق سبحانه وتعالى، في هذا الوقت نزل القرآن الكريم موجها أنظار هؤلاء الجاحدين من الكفار والمشركين والوثنيين إلى طلاقة القدرة الإلهية في إبداع خلق الكون من جرم ابتدائي واحد، وذلك في صيغة استفهام توبيخي، استنكاري، تقريعي يقول فيه ربنا تبارك وتعالى: “أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ“ (الأنبياء:30).
وهذه الآية الكريمة واضحة الدلالة على أن الكون الذي نحيا فيه كون مخلوق له بداية، بدأ الله تعالى خلقه من جرم ابتدائي واحد “مرحلة الرتق”، ثم أمر الله تعالى بفتق هذا الجرم الابتدائي فانفتق وتحول إلى غلالة من الدخان “مرحلة الدخان”، وخلق الله تعالى من هذا الدخان كلا من الأرض والسماء.. أي جميع أجرام السماء وما ينتشر بينها من مختلف صور المادة والطاقة مما نعلم وما لا نعلم وتعرف هذه المرحلة باسم مرحلة الإتيان بكل من الأرض والسماء، وقد جاء وصف المرحلتين الأخيرتين في الآية الحادية عشرة من سورة فصلت، والتي يقول فيها ربنا تبارك وتعالى موبخًا كلا من الذين كفروا بالله تعالى فأنكروا الخلق، أو أشركوا مع الله تعالى معبودا آخر: “قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ” (فصلت:12-9).
وهذه الآيات القرآنية الكريمة في كل من سورتي الأنبياء وفصلت تعرض لخلق السماوات والأرض في إجمال وشمول وإيجاز، كما تعرض لعدد من الحقائق الكونية الأخرى، وتربط بينها وبين عقيدة الإيمان بالله الخالق، الواحد الأحد، الفرد الصمد، لأن عقيدة التوحيد تقوم على أساس من الحق الذي قامت به السماوات والأرض، وكل ما فيهما من صور الخلق، ولكننا سوف نقصر حديثنا هنا على الإشارات الواردة في تلك الآيات عن خلق السماوات والأرض، وقبل أن نفعل ذلك لابد من تأكيد حقيقة الدلالة العلمية للآيات الكونية الواردة في كتاب الله الخالق.
الدلالة العلمية للآيات الكونية في القرآن الكريم:
من المسلمات أن الآيات الكونية لم ترد في كتاب الله الخالد من قبيل الإخبار العلمي المباشر للإنسان، وذلك لأن التحصيل العلمي قد تُرك لاجتهاد الناس، يجمعون شواهده جيلا بعد جيل، وأمة بعد أمة، نظرًا للطبيعة التراكمية للمعارف المكتسبة، ولمحدودية حواس الإنسان وقدرات عقله، ومحدودية كل من مكانه في بقعة محددة من الأرض وزمانه أي عمره. ومع تسليمنا بهذا الفهم، وتسليمنا كذلك بأن الآيات الكونية التي أشار إليها ربنا تبارك وتعالى في محكم كتابه جاءت في مقام الاستدلال على طلاقة القدرة الإلهية في إبداع الخلق، وللاستشهاد على أن الله تعالى الذي أبدع هذا الخلق قادر على إفنائه، وعلى إعادة خلقه من جديد، كما تأتي هذه الآيات الكونية في مقام الاستدلال على وحدانية الخالق العظيم بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع.
وتتراءى هذه الوحدانية لكل ذي بصيرة في جميع جنبات الكون، وفي كل أمر من أموره، في السماوات وفي الأرض، في الأنفس وفي الآفاق، في كل سنة من سنين الكون، وفي كل ناموس من نواميسه، وفي كل جزئية من جزئياته من الذرة إلى الخلية الحية إلى المجرة، كما تتراءى في وحدة بناء الكون، ووحدة لبناته وتأصل عناصره التي ترد كلها إلى غاز الإيدروجين وفي وحدة كل من المادة والطاقة، وفي تواصل كل من المكان والزمان، وفي وحدة بناء الخلية الحية، وفي وحدة الحياة والممات والمصير، لكل حي. وتتراءى وحدانية الخالق سبحانه وتعالى في تعميم الزوجية على جميع المخلوقات من الأحياء والجمادات، حتى يبقى الخالق في علاه، متفردًا بالوحدانية فوق جميع خلقه. ومع تسليمنا بكل ذلك فإن القرآن الكريم يبقى كلام الله الخالق، الذي أوحى به إلى خاتم أنبيائه ورسله صلى الله عليه وسلم، وتعهد سبحانه وتعالى بحفظه باللغة نفسها التي أوحاه بها، اللغة العربية فحفظ كلمة كلمة، وحرفا حرفا تحقيقا للوعد الإلهي الذي قطعه ربنا تبارك وتعالى على ذاته العلية.
فقال عز من قائل: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (الحجر:9). ولما كان القرآن الكريم هو كلام الله الخالق، وكان الكون من صنعته وإبداع خلقه، فلابد أن يكون كل حرف وكلمة وآية في القرآن الكريم حقا مطلقًا، وأن تكون كل الإشارات الكونية فيه ناطقة بالحقيقة المطلقة للكون ومكوناته، ولو وعي المسلمون ذلك حق الوعي لكان لهم قصب السبق في الكشف عن العديد من حقائق هذا الكون قبل غيرهم من الأمم بقرون عديدة، وكان هذا السبق من أفضل وسائل الدعوة إلى دين الله الخاتم في زمن التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه.
(1) العلوم المكتسبة وخلق السماوات والأرض
للعلوم المكتسبة شواهد تؤيد فكرة الانفجار العظيم منها ما يلي:
(أ) توسع الكون كدليل على الانفجار العظيم:
على الرغم من تأكيد القرآن الكريم الذي أنزل قبل أكثر من ألف وأربعمائة من السنين حقيقة توسع الكون يقول الحق تبارك وتعالى: “وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ” (الذاريات:47). فقد بقي الفلكيون إلى مطلع العشرينات من القرن الماضي مصرين على ثبات الكون وعدم تغيره وفي السنوات من 1914: 1925م أثبت الفلكي الأمريكي ف.م سلايفر أن معظم المجرات التي قام برصدها خارج مجرتنا درب اللبانة تتباعد عنا وعن بعضها بعضا بسرعات كبيرة.
وفي سنة 1929م تمكن الفلكي الأمريكي الشهير إدوين هبل من تأكيد ظاهرة توسع الكون، وتوصل إلى الاستنتاج الصحيح أن سرعة تباعد المجرات الخارجية عن مجرتنا تتناسب تناسبًا طرديًا مع بعدها عنا، وفي سنة 1934م اشترك هو وأحد من مساعديه في قياس أبعاد وسرعات تحرك32 من تلك المجرات الخارجية بعيدًا عن مجرتنا وعن بعضها بعضا. من جانب آخر استطاع علماء كل من الفيزياء النظرية والفلكية تأكيد حقيقة توسع الكون بتوظيف القوانين الرياضية في عدد من الحسابات النظرية، ففي سنة1917م أطلق ألبرت أينشتاين نظرية النسبية العامة لشرح طبيعة الجاذبية كقوة مؤثرة في الكون المدرك، وأشارت المعادلات الرياضية المستنتجة من تلك النظرية إلى أن الكون الذي نحيا فيه كون غير ثابت، فهو إما أن يتمدد وإما أن ينكمش وفقا لعدد من القوانين المحددة له، وجاءت هذه النتيجة على عكس ما كان يعتقد أينشتاين وجميع معاصريه من الفلكيين وعلماء الفيزياء النظرية، ولقد أصاب أينشتاين الذعر حينما أدرك أن معادلاته تنبئ رغم أنفه بأن الكون في حالة تمدد مستمر، فعمد إلى إدخال معامل من عنده أطلق عليه اسم الثابت الكوني ليلغي به تمدد الكون، ويؤكد ثباته واستقراره برغم دوران الأجرام التي يحتويها، وحركاتها المتعددة، ثم عاد أينشتاين ليعترف أمام سيل ملاحظات الفلكيين عن تمدد الكون بأن تصرفه هذا كان أكبر خطأ علمي اقترفه في حياته.
في السنوات1917: 1924 م قام الروسي أليكساندر فريد مان بإدخال عدد من التحسينات على معادلات أينشتاين، وقدم نموذجين لتفسير نشأة الكون يبدأ كل منهما بحالة متفردة تتميز بكثافة لا نهائية، وتتمدد منها إلى حالات ذات كثافة أقل. وتحدث فريدمان عن انحناء الكون، وعن تحدبه تبعا لكمية المادة الموجودة فيه، فإن كانت تلك المادة أقل من قدر معين كمية حرجة وجب أن يستمر تمدد الكون إلى الأبد، وفي هذه الحالة يكون نظام الكون مفتوحًا، أما إذا كانت كمية المادة بالكون أقل من الكمية الحرجة غدت الجاذبية على قدر من القوة بحيث تحدب الكون إلى درجة تتوقف عندها عملية التمدد في لحظة معينة من المستقبل، عندها يبدأ الكون في الانطواء على ذاته ليعود إلى حالة الكثافة اللانهائية الأولى التي بدأ بها الكون، وفي هذه الحالة يكون نظام الكون مغلقًا.
وقد أثبت كل من وليام دي سيتر في سنة 1917م وآرثر إدنجتون في سنة 1930م أن الكون كما صورته معادلات أينشتاين هو كون غير ثابت، ولكن تصور كل منهما للكون كان تصورًا بدائيا، فبينما كان نموذج أينشتاين للكون نموذجا ماديا دون حركة، ونموذج دي سيتر حركيا دون مادة، جاء نموذج إدنجتون وسطا بين النموذجين بمعنى أن الكون بدأ بحالة ساكنة، ثم أخذ في التمدد نظرًا لطغيان قوي الدفع للخارج على قوي الجاذبية، ولكن انطلاقَا من فكر الإلحاد السائد في عصره اضطر إدنجتون إلى فرض ماض لا نهائي للكون ليتخلص من حقيقة الخلق، وشبح الانفجار الكبير والذي سماه بالبداية الكارثة. في السنوات 1934، 1932م اقترح ريتشارد تولمان نموذجًا متذبذبا للكون يبدأ وينتهي بعملية الانفجار الكبير. وأخيرًا اقترح آلان جوت نموذج الكون المتضخم، والذي يقترح فيه أن الكون المبكر تمدد في أول الانفجار تمددا رأسيا سريعا جدا مع سطوع فائق. ثم أخذت معدلات التوسع في التباطؤ إلى معدلاتها الحالية.
ومن منطلق إنكار الخلق ينادي الفلكيون المعاصرون بفكرة الكون المفتوح أي الذي يتمدد إلى ما لا نهاية ولكن حسابات الكتل المفقودة تؤكد انغلاق الكون، هذا الانغلاق الذي سيقف بتمدده عند لحظة في المستقبل يعود الكون فيها إلى الانكماش والتكدس على ذاته ليعاود سيرته الأولي. وبالتدريج بدأت فكرة تمدد الكون إلى حد ما في المستقبل تلقي القبول من الغالبية الساحقة من علماء الفلك والفيزياء الفلكية والنظرية، وإن بقيت أعداد منهم يدعون إلى ثبات الكون حتى مشارف الخمسينيات من القرن العشرين، ومن هذه الأعداد جامعة كمبردج المكونة من كل من هيرمان بوندي، وتوماس جولد، وفريد هويل. وقد قام هذا الفريق بنشر سلسلة من المقالات والبحوث في السنوات 1946م، 1949،1948م دفاعًا عن النموذج الثابت للكون ثم اضطروا إلى الاعتراف بحقيقة تمدده بعد ذلك بسنوات قليلة.
ومن عجائب القدر بهؤلاء الجاحدين لحقيقة الخلق، المتنكرين لجلال الخالق سبحانه وتعالى المنادين كذبا بأزلية العالم، أن يكون أحد زعمائهم وهو فريد هويل الذي حمل لواء الادعاء بثبات الكون واستقراره وأزليته لسنوات طويلة هو الذي يعلن بنفسه في سخرية لاذعة تعبير الانفجار الكبير للكون وذلك في سلسلة أحاديث له عبر الإذاعة البريطانية في سنة 1950م ينتقد فيها ظاهرة تمدد الكون، ويحاول إثبات بطلانها، ثم جاء بعد ذلك بسنوات ليكون من أشد المدافعين عنها. وكانت نظرية خلق الكون من جرم أولي واحد عالي الكثافة قد توصل إليها البلجيكي جورج لوميتر في سنة 1927م وذلك في رسالة تقدم بها إلى معهد ماشوسيتس للتقنية، دافع فيها وفي عدد من بحوثه التالية عن حقيقة تمدد الكون، ولم تلق أبحاثه أي انتباه إلى أن جاء إدنجتون في سنة 1930م ليلفت إليها الأنظار ومن هنا أطلق على لوميتر لقب صاحب فكرة الانفجار الكبير في صورتها الأولي.
___________________________
المصدر: موقع http://www.elnaggarzr.com/
[ica_orginalurl]