د. عبد الحليم عويس
كان (مصعب بن عمير) شابًا فتيًا جميلًا، له مكانة في أهل مكة، ومنزلة بين أبويه، تجعله أثيرًا، مجاب الطلب، حرَّ التصرف في ثروتهما. وكان موضع احترام أهل مكة. يُقبلون على صحبته، ويرغبون في الارتباط به، ويضعونه في المكانة العليا من فتيان قريش وصفوة شبابها. وقد وصف الرسول -عليه الصلاة والسلام- مصعبًا في جاهليته، فقال: ((ما رأيت بمكة أحسن لمة [1] ولا أرق حلة، ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير)).
في دار الأرقم
لقد سمع (مصعب) – كما سمع أهل مكة جميعًا – دعوة الإسلام، وعلم أيضًا أن المسلمين يجتمعون في دار الأرقم بن أبي الأرقم، في خارج مكة، يتعلمون من محمد – عليه الصلاة والسلام – أمور الإسلام، ويتلقون عنه الوحي الإلهي.
ولم يتوان (مصعب) عن الذهاب إلى دار الأرقم، ليسمع بنفسه شيئًا عن هذا الدين الجديد.. ولم يلبث بعد أن سمع القرآن، وتدبر معانيه – أن أصبح واحدًا من خيرة المسلمين.
وقد أخفى (مصعب) خبر إسلامه، خشية غضب أبيه وأمه، فكان يحضر مجلس الرسول سرًا، حتى رآه (عثمان بن طلحة) وهو يصلي، فأخبر أهله بإسلامه فبدأ (مصعب) يدفع ثمن إسلامه غاليا.
في سبيل الإسلام
عندما علمت أم مصعب بإسلامه، حاولت أول الأمر أن تثنيه عن عزمه، ولما لم تنجح في ذلك لجأت إلى أساليب التهديد والإغراء، فمنعت عن مصعب ما يحتاج إليه، وهي التي كانت تطلق يده في مالها ثم بالغت في تعذيبه فحبسته، وأخذت تذيقه ألوانًا شديدة من العذاب، وهو صابر لا يرفع فيها بصره، ولكنه لم يمكنها من أن تصل إلى ما تريد، فيئست، وأطلقت سراحه.
وعاش (مصعب) في مكة، يعاني من الفقر والجوع ما يعاني. وعندما أمر الرسول – عليه الصلاة والسلام – أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، خرج (مصعب) فيمن خرج، مفارقًا مراتع صباه، ومواطن عزَّه، واضعًا نصب عينه التمسك بالدين الذي آمن به والتضحية في سبيله.
ولم تكن حالهُ في الحبشة بأفضل من حاله في مكة، فقد ذاق هناك ألم الغربة، وبؤس العيش، وجدب الحياة، فآثر الرجوع إلى مكة، ليواصل منها رحلة الجهاد والصبر وتحمل البلاء.
أول سفير للإسلام
وقد شاء الله بعد أن اختبر صدق المؤمنين في مكة – أن يفتح للمسلمين بابا من الأمل، فأسلم نفر من أهل يثرب في موسم الحج، وبايعوا الرسول – عليه الصلاة والسلام – بيعة العقبة الأولى، ورغب الرسول الكريم في أن يمكن للإسلام في يثرب، فأرسل مع النفر الذين أسلموا شابًا صالحًا ذكيًا شجاعًا هو ((مصعب بن عمير)) ليقرئهم القرآن، ويعلمهم مبادئ الإسلام، ويقوم بنشره بين أهل يثرب.
وهناك نزل مصعب على (أسعد بن زرارة) وأخذ يدعو المشركين إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان يتنقل في يثرب من دار إلى دار، ومن ندوة إلى ندوة، تالي القرآن ذاكر ما يحفظ من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ضاربا المثل الطيب في العبادة والتقوى.
ولم يكن يمَّر يوم دون أن يسلم الرجل أو الرجلان، ولم يترك بيتا إلا ترك فيه أثرًا طيبًا.
وقد أسلم على يديه في يوم واحد (سعد بن معاذ) و(أسيد بن حضير) من كبار زعماء يثرب، وأسلم بإسلامها خلق كثير.
واستمر (مصعب) قرابة عام في يثرب، لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها صوت للإسلام يتردد.
ومع استدارة العام، وخروج يثرب إلى مكة – عاد مصعب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يبشره بما فتح الله عليه، ففرح الرسول – عليه الصلاة والسلام – بعودته، وبما فتح الله عليه، فرحا عظيما.
ولما علمت أم مصعب بعودته أرسلت إليه تقول له: ((يا عاق أَتقْدِم بلدًا أنا فيه ولا تبدأ بي؟)) فأجاب رضي الله عنه: ((ما كنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم)).
نائب القائد الأعلى في بدر
وهاجر (مصعب) رضى الله عنه الهجرة الأخيرة إلى المدينة قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم باثنتي عشر ليلة، ليكمل – مع المسلمين – نشر الدعوة الإسلامية في مرحلتها الجديدة.
ولما كانت بدر في السنة الثانية للهجرة، وكان (مصعب) من قادتها وأبطالها الميامين، وعند خروج الجيش من المدينة، كافأ الرسول صلى الله عليه وسلم (مصعبًا) جزاء ما قدم لدعوة الله، فدفع إليه لواء القيادة العامة التي يتولاها صلى الله عليه وسلم بنفسه.
ولما انتهت المعركة بنصر الله المبين للمسلمين كان من بين المشركين الأسرى (أبو عزيز بن عمير) أخو مصعب، ومرَّ به (مصعب) وأحدُ الأنصار يضع القيود في يده، فقال مصعب للأنصاري: شُدَّ يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك.
فقال أبو عزيزُ لأخيه مصعب: أهذه وصاتك بأخيك؟ فقال مصعب: “إن الأنصاري هو أخي دونك”.
الشهيد
وقد حاول المشركون الانتقام لهزيمتهم، فالتقوا بالمسلمين في معركة أحد، وانتصر المسلمون أول الأمر، لكن الرماة تركوا أماكنهم، فاستغل المشركون الفرصة، وأعادوا الكرة على المسلمين، وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم نفر قليل منهم (مصعب بن عمير)، الذي كان يحمل لواء المسلمين في المعركة.
وقد هاجم أحد فرسان الشرك[2] (مصعبًا) وضرب يده اليمنى فقطعها، فأخذ مصعب الراية بيده اليسرى، فقطعت، فاحتضن الراية، وظل يقاوم، حتى سقط شهيدًا، وهو يردد قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144].
فأسرع إليه مهاجران من بنى عبدالدار[3]، فحمل أحدهما اللواء وأسرع الآخر يحمل مصعبًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فألقى عليه النبي نظرة الوداع، وهو يقرأ قول الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
المسلم يتعلم
1- أن مقياس الرجولة والرقى ليس الغنى وجمال المظهر فقط، وإنما المقياس الجهاد والإخلاص.
2- أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
3- أن المؤمنين أخوة، وأن رحم الإسلام أعزُّ رحم.
4- أن المسلمين الأُول بذلوا الكثير، وتحملوا الشدائد والأهوال في سبيل الله.
5- أن المسلم الصادق داعية للإسلام، ناشر لنوره، مجاهد في سبيله.
6- أنه يجب أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبرار، رضى الله عنهم أجمعين.
——
[1] اللمة من شعر الرأس: القليل منه، والمراد: أنه كان يجمل شعره.
[2] يدعى بن قميئة.
[3] هما سويبط بن سعد، وأبو الروم بن عمير.
——
* المصدر: الألوكة.
[ica_orginalurl]