“إذا كان بإمكان البشر استيعاب فكرة أن الخير والسعادة والطمأنينة في الحياة الدنيا سببها الإله العادل المحب لعباده، فكيف يمكن إقناعهم بأن الابتلاءات هي من نفس الإله، بل ولنفس الأسباب أيضا.. العدل والمحبة؟!.. كيف يمكن النظر للخير والشر سويا على أنهما من أدلة وجود الله تعالى؟”[1]
م. إسلام ماهر
يَتَساءل: كيف أُؤْمن أن للكون إلهًا وأنا أرى مِن حَوْلي أنْواع الشُّرور الَّتي تَتَنافى مع وجود الله؟! وإن صَح أنَّه مَوْجود، فلماذا جَعَل للشَّر وُجودًا وهو القادِر على ألَّا يفعل؟!
أقول: إن تساؤلك هذا مما يَسْتَشْكِله كَثير مِن المُؤْمنين، فَضْلًا عن غير المُؤْمنين، والسَّبب في هذا الاِسْتِشْكال عدم المَعْرِفَة بصِفات الإله، وأنَّك لو أمْعَنت النَّظر فيما تتسائل لتبيَّن لك أن وُجود الشَّر لا يُمكِن أن يُفسَّر بدون أن يؤْمن المَرْء بوُجود الله.
إنَّك إذا قُلت أن المادَّة أو الطَّبيعة هي الَّتي أوجدتنا، فلا بُد أن تُسلِّم معي أنَّه لا مَعْنى للشَّر ولا وُجود له، لأنَّنا في هذه الحالة كالآلة المُبرْمَجة الَّتي تتصرَّف بِناءً على مُدْخلات وقَوانين، لا شُعور لها أو رأي، لكنَّنا مع ذلك نرى أن الشَّر مَوْجود ونستطيع أن نتبيَّن وُجوده.
وإذا كانت فِطْرتنا – كما يُفهَم مِن تساؤُلك أنت- ترى أن الأفْعال توصف بالخير والشر، وأن الخَير مَحَل قُبول والشَّر مَحَل اِسْتِنكار، فلماذا نتصرَّف – أحْيانًا- بعكس ما تفرضه علينا الفِطْرة الَّتي هي جُزء مِن طَبيعتنا؟!
ليست المادَّة إذًا هي الَّتي أوجدتنا وإن كانت داخِلة في تَركيبنا، لأنَّها لم تستطع أن تُفسِّر – وَحْدها- طَبيعتنا.
بعد أن تبيَّن لك أنَّه يَسْتَحيل لمادَّة مُجرَّدة اِسْتِحْسان أو اِسْتِنكار فِعْل، وهو أمر أحسبه بديهي؛ أقول بعد أن تبيَّن لك هذا دعني أُوضِّح لك كيف يَجْتمع وُجود الله مع وُجود الشَّر.
شرور الأرض من أدلة وجود الله !
لا بُد أن تعلم اِبْتداءً أنَّه – تَعالى- “لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْأَلُونَ” (الأنبياء:23)، فالعَبْد لا يسأل سَيِّده: لماذا فَعَلت أو لم تَفْعَل كَذا؟! لأن الأصل في العُبوديَّة الاِنْصياع التَّام للمَعْبود، ومِن حَق الإله الخالِق أن يفعل ما يشاء كيفما شاء، لأنَّه المَلِك المُطْلَق الَّذي خَلَق الخَلْق مِن العَدَم المَحْض.
بَيْد أنَّه مِن المُحال صُدور الشَّر المَحْض عنه – سُبحانه وتَعالى-، لأن ذَلِك يَتَنافى مع كَوْنه العَدْل المُطْلق، الرَّحيم المُطْلق، الحَكيم المُطْلق، إلى آخر صِفات كَماله المُطْلق.
والعَدْل كما قال بعض السَّلَف: هو الَّذي يصدُر مِنه فِعْل العَدْل المُضاد للجور والظُّلم، ولنْ يَعْرِف العادِل مِن لم يَعْرِف عَدْله، ولا يَعْرِف عَدْله مِن لم يَعْرِف فِعْله، فمَن أَراد أَن يَفْهَم هذا الوَصْف فيَنْبَغي أَن يُحيط عِلْمًا بأفْعال الله تَعالى.. والظُّلم عِنْد أهل السُّنَّة هو وَضْع الشَّيء في غير مَوْضِعه كتَعْذيب المُطيع ومَن لا ذنْب لَه، وهذا قد نزَّه الله نَفسه عَنه، وهو سُبْحانه وإن أضل مَن شاء، فذَلِك مَحْض العَدْل فيه لأنَّه وَضَع الإضْلال والخِذلان في مَوْضِعه اللَّائِق به.
أمَّا كَوْنه الرَّحيم المُطْلق فهو – حَتْمًا- يُريد الخَير للمَرْحوم، لذلك قيل: لَيس في الوُجُود شَر إلَّا وفي ضِمنه خَير لو رُفع ذَلِك الشَّر لبطل الخَيْر الَّذي في ضِمْنه وحَصَل ببُطْلانه شَرًّا أعْظم مِن الشَّر الَّذي يتَضمَّنه.
وإذا عَلِمت أن الخالِق هو الحَكيم المُطْلق، فإن وُجود الشَّر لا بُد أن يكون لحِكْمة، ومَوْضِع الحيرة أنَّنا نعجَز كَثيرًا عن فهم الحِكْمَة هذه، فنعتقد أنَّنا أمام شَر مَحْض، والشَّر المَحْض يَتَنافى مع كَمال الله المُطْلق كما تقدَّم. ولكي نَفْهَم الحِكْمَة يَنْبَغي أن نعرف اِبتِداءً السَّبب الَّذي لأجله خُلِقنا، ونعرفه بإخْبار مِن خالِقنا
يقول تَعالى: “ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات:56)؛ فالبَشر كُلَّهم عَبيد لله؛ أعْني عُبوديَّة الاِخْتيار. أمَّا عُبوديَّة القهر فلا، والسَّبب في ذَلِك أن الله جَعَل لهم إرادة حُرَّة “َ…فمَن شَاءَ فَلْيُؤْمن ومَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ …“(الكهف:29)، وحُريَّة الإرادة هذه تقتضي أن يظهر الخَير والشَّر في أفعالهم، ومع الإرادة الحُرَّة والعَمَل ينشأ الجَزاء، وهذا أمر لازِم، لأن السَّارِق – على سَبيل المِثال- يَسْرِق وكان في مَقْدوره ألَّا يَسْرِق، فهو مُستحِق للعُقوبة. والَّذي يَعْنينا الآن أن ظُهور الخَير والشَّر أمر تَقْتَضيه الإرادة الحُرَّة الَّتي نملُكها، فلو كانت أفعالنا كُلَّها قَهْرًا لا اِخْتيارًا لما كانت مَحَل جَزاء.
لذلك فهو – تَبارك وتَعالى- يقول: “مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ومَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ…“(النساء:79)، “ومَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ“(الشورى:30)، “ومَا كَانَ ربُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ومَا كُنَّا مُهْلكِي القُرَى إِلَّا وأَهْلُهَا ظَالِمُونَ“(القصص:59).
فالآية الأُولى يُفهَم مِنها أن الشَّر الَّذي وَقَع على الإنسان يَكون مِن نَفْسه كَوْنه عاقِلًا وحُر الإرادة ومُكلَّفًا. وفي الآية الثَّانية يُبيِّن الحَق – تَبارك وتَعالى- بأنَّه “يَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ“، وفي الثالثة ينفي سُبحانه أن يَكون الإهْلاك قبل إرْسال الرُّسُل وتِلاوة الآيات مع إصْرار النَّاس على الظُّلم.
حتى الرسل طالتهم الابتلاءات.. هل يُعقل ذلك؟
ويسأل السَّائِل: لكننا نَرى أن الشَّر يقع حَتَّى على مَن تصِفونهم بأنَّهم رُسُل وأنْبياء، صالِحين وأتقياء، فما الدَّاعي وقد سَلَكوا طَريق “الحَق” الَّذي تزْعُمون؟!
أقول: جَواب سُؤالك في قَوْله صلى الله عليه وسلم كما في صَحيح مُسلِم: (ما يُصيب المُؤمن مِن شَوكةٍ فما فوقها، إلَّا رَفَعه الله بها دَرَجةً، أو حطَّ عنه خطيئةً).
كذلك فإنَّه تَعالى يُبيِّن لنا أن الخَير والشَّر – كِلاهُما- اِبْتِلاء وفِتْنَة ليَظْهَر كُل إنسان على حَقيقته ويلقى جَزاءه “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ونَبْلُوكُم بِالشَّرِّ والخَيْرِ فِتْنَةً وإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ“(آل عمران:185)، فبمُستطاع كُل فرد أن يدَّعي عن نَفْسه أشياء، فإذا ما حال بينه وبين ما يدَّعي عَقَبات وأهْواء، ظَهَرت حَقيقته جَرْداء.
يقول الشَّاعِر: لَوْلا المَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ .. الجُودُ يُفْقِرُ والإقْدامُ قَتَّالُ
يعود السَّائِل فيَقول: قد تَكون أسْبابًا مَعْقولة إذا كان الحَديث عن البالِغين مِن المُؤْمنين وغير المُؤْمنين، ولكن ماذا عن المَوْلود الَّذي وَجَد نفسه مَعيبًا؟! هل يُبْتَلى أو يُجازى قبل أن يُكلَّف؟!
أقول: بالنَّظر إلى الأُمور في حَجمها الحَقيقي سَنَجِد أن القاعِدة “أطْفال أسوياء” والاِسْتِثْناء “أطْفال غير أسوياء”، وإذا أردنا التَّعميم وَجَدنا أن القاعِدة هي الخَير والاِسْتِثْناء هو الشَّر. فما الحِكْمة؟! لماذا لا يَكون العَكس مَثَلًا.. القاعِدة هي الشَّر والاِسْتثْناء هو الخَير؟!
الحِكْمة في ذلك أن الشَّيء لا يُعْرَف بدون مَعْرِفة نَقيضه. فلو أن كُل إنسان يولد سويًّا لقيل أن هذا أمر لازِم، فهي “لَفْتَة” مِن الله بأنَّه هو الَّذي خَلَق الإنْسان “…في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ“(التين:4)، وأن هذا تفضُّلًا مِنه عليه، وأن في مَقْدوره أن يجعله مُعابًا.
أقول خِتامًا أنَّنا نَفْتَقِر تمام الاِفْتِقار إلى العِلْم المُطْلق لكي نَفْهَم مُراد الله وحِكْمته، وقد ضَرَب الله مِثالًا رائعًا لنتبيَّن ذلك؛ ففي قِصَّة مُوسى مع العَبد الصَّالِح الَّذي قال عنه الرَّب – تَبارك وتَعالى- “…آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا“(الكهف:65)، نجد أن هذا العَبد المُزكَّى مِن الله قد فَعَل أشْياء، يَظْهَر مِنها خِلاف الرَّحْمة والعِلْم المَوْصوف بهما، مما جَعَل نَبي الله مُوسى يَسْتَنكِر ما فَعَله، ولا رَيب أن أي إنسان يَرى فِعْله سيَسْتَنكِره، وقد عَلِم هذا العَبد الصَّالِح أن مُوسى – عليه السَّلام- لن يَصْبِر على ما سيَرى فقال له: “إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا . وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا“(الكهف:67-68)، غير أن مُوسى أجابه بقَوْله “سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ صَابِرًا ولا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا“(الكهف:69)، فقال له العَبد الصَّالِح “فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْألْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا” (الكهف:70).
وكان أوَّل الأمر أن خَرَق السَّفينة الَّتي رَكِباها، مما جعل مُوسى – عليه السَّلام- يَقول “…أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا“(الكهف:71)، وبعد أن اِنْطَلَقا قَتَل العَبد الصَّالِح غُلامًا، فقال نَبي الله “…أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا“(الكهف:74).. “فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا“(الكهف:77).
وقد كان العَبد الصَّالِح يُذكِّر مُوسى – عليه السَّلام- في كُل مرَّة بما قال له أوَّل الأمر مِن أنَّه لن يصبر على ما سيَرى، فكان أن بيَّن له في نِهاية الأمر الحِكْمة مِن وراء أفْعاله الَّتي تتحيَّر لها الألباب إذا عَلِمت أن الفاعِل مَوْصوف مِن الله بالرَّحمة والعِلْم!
يَقول مُبيِّنًا “أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا وأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا ربُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وأَقْرَبَ رُحْمًا وأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ وكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ ربُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ويَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِن ربِّكَ ومَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا“(الكهف:79-82).
الهامش:
[1] – إضافة المحررة
_______________________________
المصدر: بتصرف يسير عن موقع ساسة بوست
http://www.sasapost.com/opinion/evidence-of-the-existence-of-gods-goodness-and-evil-guide/
[ica_orginalurl]