إلى أواخر الخمسينيات من القرن العشرين المنصرم، لم يكن لأحد من العلماء إمكانية التصور، أن هذا القدر الهائل من الحديد الموجود في باطن الأرض قد أنزل إلى الأرض من السماء إنزالًا حقيقيا!
يمكن للقارئ الكريم مطالعة الجزء الأول من المقال من خلال زيارة العنوان التالي:
الحديد.. المعدن السماوي!!! (الجزء الأول)
فكيف أُنزل؟ وكيف تسنى له اختراق الغلاف الصخري للأرض بهذه الكميات المذهلة؟ وكيف أمكنه الاستمرار في التحرك بداخل الأرض حتى وصل إلى لبها؟ وكيف شكل كلًا من لب الأرض الصلب ولبها السائل على هيئة كرة ضخمة من الحديد والنيكل، يحيط بها وشاح منصهر من التركيب نفسه، ثم أخذت نسبته في التناقص باستمرار في اتجاه قشرة الأرض الصلبة؟
إنزال الحديد من السماء
لجأ المفسرون قديما إلى تفسير (الإنزال) في الآية على أنه بمعنى الخلق والإيجاد والتقدير والتسخير؛ لأنه لما كانت أوامر الله تعالى وأحكامه تلقى من السماء إلى الأرض، جعل الكل (نزولًا) منها، وهذا معنى صحيح، ولكن في أواخر القرن العشرين ثبت لعلماء الفلك والفيزياء الفلكية، أن الحديد لا يتكون في الجزء المدرك من الكون إلا في مراحل محددة من حياة النجوم، تسمى بـ(العماليق الحمر) و(العماليق العظام) والتي بعد أن يتحول لبها بالكامل إلى حديد، تنفجر على هيئة المستعرات العظام، وبانفجارها تتناثر مكوناتها بما فيها الحديد في صفحة الكون، فيدخل هذا الحديد -بتقدير من الله سبحانه- في مجال جاذبية أجرام سماوية، تحتاج إليه مثل أرضنا الابتدائية، التي وصلها الحديد الكوني، وهي كومة من الرماد، فاندفع إلى قلب تلك الكومة بحكم كثافته العالية وسرعته المندفع بها، فانصهر بحرارة الاستقرار في قلب الأرض وصهرها، ومايزها إلى سبع أرضين!
وبهذا ثبت أن الحديد في أرضنا، بل في مجموعتنا الشمسية بالكامل قد أُنزل إليها إنزالًا حقيقيًّا.
ويقدر العلماء أنه عندما تصل درجة حرارة لب الشمس إلى ستمائة مليون درجة مئوية، يتحول الكربون إلى صوديوم ومغنيسيوم ونيون، ثم تنتج عمليات الاندماج النووي التالية عناصر الألمنيوم، والسيليكون، والكبريت، والفوسفور، والكلور، والأرجون، والبوتاسيوم، والكالسيوم على التوالي، مع ارتفاع مطرد في درجة الحرارة، حتى تصل إلى ألفي مليون درجة مئوية حين يتحول لب النجم إلي مجموعات التيتانيوم، والفناديوم، والكروم، والمنغنيز، والحديد.
ولما كان تخليق هذه العناصر يحتاج إلى درجات حرارة مرتفعة جدًا، لا تتوافر إلا في مراحل خاصة من مراحل حياة النجوم، تُعرف باسم (العماليق الحمر) و(العماليق العظام) وهي مراحل توهج شديد في حياة النجوم؛ فإنها لا تتم في كل نجم من نجوم السماء، ولكن حين يتحول لب النجم إلى الحديد، فإنه يستهلك طاقة النجم بدلًا من إضافة مزيد من الطاقة إليه؛ وذلك لأن نواة ذرة الحديد هي أشد نوى العناصر تماسكًا، وهنا ينفجر النجم على هيئة ما يسمى باسم (المستعر الأعظم) من النمط الأول أو الثاني حسب الكتلة الابتدائية للنجم، وتتناثر أشلاء النجم المنفجر في صفحة السماء لتدخل في نطاق جاذبية أجرام سماوية، تحتاج إلى هذا الحديد تمامًا، كما تصل النيازك الحديدية إلى أرضنا بملايين الأطنان في كل عام.
ولما كانت نسبة الحديد في شمسنا لا تتعدى (0.0037%) من كتلتها، وهي أقل بكثير من نسبة الحديد في كل من الأرض والنيازك الحديدية التي تصل إليها من فسحة الكون، ولما كانت درجة حرارة لب الشمس لم تصل بعد إلى الحد الذي يمكنها من انتاج السيليكون، أو المغنيسيوم، فضلًا عن الحديد، كان من البديهي استنتاج أن كلًا من الأرض والشمس قد استمد ما به من حديد من مصدر خارجي عنه في فسحة الكون، وأن أرضنا حينما انفصلت عن الشمس لم تكن سوى كومة من الرماد المكون من العناصر الخفيفة، ثم رجمت هذه الكومة بوابل من النيازك الحديدية، التي انطلقت إليها من السماء، فاستقرت في لبها بفضل كثافتها العالية وسرعاتها الكونية، فانصهرت بحرارة الاستقرار، وصهرت كومة الرماد وما يزنها إلى سبع أرضين.
من هنا ساد الاعتقاد بأن الحديد الموجود في الأرض، والذي يشكل (35.9%) من كتلتها لا بد وأنه قد تكون في داخل عدد من النجوم المستعرة من مثل العماليق الحمر، والعماليق العظام، والتي انفجرت على هيئة المستعرات العظام، فتناثرت مكوناتها في صفحة الكون، ونزلت إلى الأرض على هيئة وابل من النيازك الحديدية.
وبذلك أصبح من الثابت علميًّا، أن حديد الأرض قد أُنزل إليها من السماء، وأن الحديد في مجموعتنا الشمسية كلها قد أُنزل كذلك إليها من السماء، وهي حقيقة لم يتوصل العلماء إلى فهمها إلا في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، وقد جاء ذكرها في سورة الحديد، ولا يمكن لعاقل أن يتصور ورودها في القرآن الكريم، الذي أنزل منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا على نبي أمي صلى الله عليه وسلم، وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين، يمكن أن يكون له من مصدر غير الله الخالق، الذي أنزل هذا القرآن بعلمه، وأورد فيه مثل هذه الحقائق الكونية؛ لتكون شاهدة إلى قيام الساعة بأن القرآن الكريم كلام الله الخالق، وأن رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ما كان “وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ” (النجم:3-4).
البأس الشديد للحديد
الحديد عنصر فلزي عرفه القدماء فيما عرفوا من الفلزات مثل الذهب، والفضة، والنحاس، وغيرها من المعادن، وهو أكثر العناصر انتشارًا في الأرض (35.9%) ويوجد أساسًا في هيئة مركبات الحديد من مثل أكاسيد، وكربونات، وكبر يتيدات، وكبريتات، وسيليكات ذلك العنصر، ولا يوجد على هيئة الحديد النقي إلا في النيازك الحديدية وفي جوف الأرض.
والحديد عنصر فلزي شديد البأس، وهو أكثر العناصر ثباتًا؛ وذلك لشدة تماسك مكونات النواة في ذرته؛ ولذا فهي تحتاج إلى كميات هائلة من الطاقة لتفتيتها، أو للإضافة إليها. ويتميز الحديد من بين جميع العناصر المعروفة بأعلى قدر من الخصائص المغناطيسية، والمرونة -القابلية للطرق والسحب والتشكل- والمقاومة للحرارة، ولعوامل التعرية الجوية، فالحديد لا ينصهر قبل (1536) درجة مئوية، ويغلي عند (3023) درجة مئوية تحت الضغط الجوي العادي عند سطح البحر، وتبلغ كثافة الحديد (7.874) جرام للسنتيمتر المكعب عند درجة حرارة الصفر المطلق.
منافع الحديد
*للحديد منافع جمة وفوائد أساسية لجعل الأرض صالحة للعمران بتقدير من الله سبحانه، ولبناء اللبنات الأساسية للحياة التي خلقها سبحانه وتعالى، فكمية الحديد الهائلة في كل من لب الأرض الصلب، ولبها السائل تلعب دورًا مهمًا في توليد المجال المغناطيسي للأرض، وهذا المجال هو الذي يمسك بكل من الغلاف الغازي والمائي والحيوي للأرض، وغلاف الأرض الغازي يحميها من الأشعة والجسيمات الكونية ومن العديد من أشعات الشمس الضارة، ومن ملايين الأطنان من النيازك، ويساعد على ضبط العديد من العمليات الأرضية المهمة من مثل دورة كل من الماء، والأوكسجين، وثاني أكسيد الكربون، والأوزون وغيرها من العمليات اللازمة لجعل الأرض كوكبًا صالحًا للعمران.
*و الحديد لازمة من لوازم بناء الخلية الحية في كل من النبات والحيوان والانسان؛ إذ تدخل مركبات الحديد في تكوين المادة الخضراء في النباتات (الكلوروفيل) وهو المكون الأساسي للبلاستيدات الخضراء، التي تقوم بعملية التمثيل الضوئي اللازمة لنمو النباتات، ولإنتاج الأنسجة النباتية المختلفة من مثل الأوراق والأزهار، والبذور والثمار، والتي عن طريقها يدخل الحديد إلى أنسجة ودماء كل من الإنسان والحيوان.
*وعملية التمثيل الضوئي هي الوسيلة الوحيدة لتحويل طاقة الشمس إلى روابط كيميائية، تُخْتَزن في أجساد جميع الكائنات الحية، وتكون مصدرًا لنشاطها أثناء حياتها، وبعد تحلل أجساد تلك الكائنات بمعزل عن الهواء، تتحول إلى مختلف صور الطاقة المعروفة -القش، والحطب، والفحم النباتي، والفحم الحجري، والغاز الفحمي، والنفط، والغاز الطبيعي، وغيرها.
*والحديد يدخل في تركيب بروتينات نواة الخلية الحية الموجودة في المادة الحاملة للشفرة الوراثية للخلية -الصبغيات- كما يوجد في سوائل الجسم المختلفة، وهو أحد مكونات الهيموجلوبين، وهي المادة الأساسية في كريات الدم الحمراء، ويقوم الحديد بدور مهم في عملية الاحتراق الداخلي للأنسجة والتمثيل الحيوي بها.
*ويوجد في كل من الكبد، والطحال، والكلى، والعضلات، والنخاع الأحمر، ويحتاج الكائن الحي إلى قدر محدد من الحديد، إذا نقص تعرض للكثير من الأمراض، يأتي في مقدمتها فقر الدم.
*والحديد عصب الصناعات المدنية والعسكرية، فلا تكاد تقوم صناعة معدنية في غيبة عنصر الحديد، وصدق الباري حين قال: “هَـٰذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ” (لقمان:11).
_____________________________
المصدر: بتصرف يسير في العنوان والمتن عن موقع طريق الإسلام
[ica_orginalurl]