د. حسن عزوزي
من الواضح أن الاهتمام قد تزايد في الآونة الأخيرة بقضايا الهجرة والوجود الإسلامي في الغرب، ويعود هذا الاهتمام إلى كون الجاليات الإسلامية المتنوعة قد ظلت مرتبطة بجذورها وأوطانها؛ وهو ما جعلها في تأثر دائم وصلة مستمرة ببلدانها الأصلية، وهو ما شكل ولا يزال للدول الغربية عائقا أمام سياسات الإدماج المتبعة تجاه هذه الجاليات، خصوصا في صفوف الشباب، ولا ينكر أحد أن الوجود الإسلامي في الغرب بواقعه وقضاياه بات يمثل ثقلا بشريا وحضاريا يستأثر باهتمام القادة السياسيين والإستراتيجيين، سواء على مستوى دول العالم الإسلامي أو على مستوى الدول الغربية المضيفة.
فالإسلام أصبح حاضرا في الدول الغربية بقوة سكانية من جهة، وقوة ثقافية من جهة أخرى، وهذه القوة الثقافية أفرزت تنوعا إسلاميا هائلا يطبعه تعدد مذهبي وعقدي وثقافي قائم على مرجعيات دينية مختلفة، وقد شجع على بروز هذا التعدد كون النشاط الديني والثقافي في الأوساط الغربية مسموحا به في حدود عدم إحداث تغييرات في بنيات المجتمع، وإلى مستويات لا تسمح ببزوغ منظومة سياسية إسلامية التوجه، والمشكلة التي ظلت قائمة ولا يمكن فهم أبعادها وتجلياتها إلا بوعي إستراتيجي شمولي؛ هي أن المسألة بخصوص الإسلام ليست مسألة وجود، وإلا لما سمح للمساجد وللمؤسسات الثقافية الإسلامية وللمسلمين عموما بمكتسبات ومجالات تحرك وعمل واسعة، بل المسألة مسألة مرجعية، حيث إن المرجعيات الدينية مختلفة ومتعددة، مما لا يسمح ببروز تمثيلية موحدة للمسلمين في الغرب.
التعددية الدينية والمذهبية
يقصد بالتعددية الدينية والمذهبية -على وجه العموم- تعدد المواقف والمناهج في فهم الدين وممارسته على مستوى العقيدة والتشريع، وهو يعني ضمنيا الاعتراف بوجود تنوع في الانتماء الديني في المجتمع الواحد، مع احترام هذا التنوع وقبول ما يترتب عليه من اختلاف. وهو ما يتضمن أيضا الإقرار بمبدأ أن لا أحد يستطيع نفي أحد، أو التعصب لمرجعية دينية ضد مرجعيات أخرى.
وينبغي التأكيد هنا على أن تعدد المذاهب والمرجعيات الإسلامية يشكل ظاهرة طبيعية، بل هي سمة ثابتة في جميع الأديان السماوية والوضعية. لكن يبقى الإشكال في طبيعة اشتغال هذا التعدد المذهبي في فضاء غربي علماني، بعيدا عن المجتمع الإسلامي، إذ يطرح السؤال: ما حدود تقبل السلطات والمجتمعات الغربية لهذه التعددية التي قد يتم التعامل مع بعض مكوناتها؟ لكن تبقى مكونات وتوجهات أخرى مثيرة للاستفزاز بحكم تشددها أو اتخاذها لمواقف متطرفة لا تخدم مصلحة بلد الإقامة.
ويزداد الأمر سوءا عندما تبرز مجموعات تحمل توجهات وأفكارا تغييرية متطرفة تدعو إلى معاداة المجتمع الغربي ومجابهته، ويتفاقم الأمر أكثر عندما تستغل وسائل الإعلام الغربية الأحداث المتطرفة التي يقوم بها بعض أبناء الجاليات الإسلامية في الغرب، ويتم التضخيم منها بالرغم من كونها لا تمثل سوى شريحة صغيرة من المسلمين المقيمين في الغرب.
تجاذبات وتحديات
إذا كانت ظاهرة التعدد المذهبي الإسلامي في الغرب قد تعتبر من منظور محدد واحدة من سمات الغنى والثراء الفكري في مجال الاجتهاد داخل المنظومة الإسلامية، فإن الأمر يبقى كذلك ما دام ليس هنالك تطرف في الفكر، أو عنف في الممارسة، أو تعصب ضد الآخر، فتعدد المذاهب والتيارات منشؤه تعدد الأفهام، لا أن الإسلام متعدد المواقف والأحكام.
فعلى سبيل المثال يمكن الحديث عن تعدد مذهبي وثقافي يتشعب بتشعب الدول الإسلامية التي تتوفر على جاليات مهمة في البلدان الغربية، حيث يلاحظ اشتغال كل جالية بأبنائها سواء على مستوى فضاءات العبادة أو أساليب تعليم الأبناء، وكذا على مستوى التعارف والتبادل الاجتماعي. وهذا النوع من التعدد المذهبي والثقافي الذي يصاحبه اعتزاز بعادات وأعراف البلد الأصلي، وبمذهبه العقدي والفقهي؛ لا يثير إشكالا أو حرجا، كما أنه لا يبعث على القلق بالنسبة للسلطات الغربية، مادامت الممارسة الدينية والثقافية لكل طائفة تتم بهدوء، وهذا الصنف من الممارسات الدينية والثقافية لا تتردد السلطات الحكومية في دعمه وتشجيعه، دون إغفال مراقبته وتتبع مراحل تطوره.
من جهة أخرى، يعاني المسلمون من تعدد الأطراف التي تتجاذبهم من هنا وهناك، مما يشكل لهم نوعا من الاضطراب وأحيانا الانفصام، فالمسلم مطالب بالانتماء إلى عقيدته وإلى وطنه الأصلي من جهة، وإلى وطن إقامته وما يختزنه من ثقافة مغايرة من جهة أخرى، كما تذهب مذاهب وتيارات أخرى تفرض نفسها.
إن تعدد هذه الانتماءات الحضارية والثقافية والمذهبية يسهم في زيادة حدة التجاذبات التي غالبا ما تتسم بطابع الصدام والصراع، مما ينفر العديد من المسلمين من ارتياد مؤسسات التجاذب، وهذا يشكل في حد ذاته تحديا واضحا يؤثر سلبا على صورة الإسلام والمسلمين في الغرب، لأن التعدد الإسلامي عندما لا ينطبع بطابع التسامح والتآلف والتعاون يكون مثيرا لتحديات ومشاكل لها بالغ الأثر على تصرفات أبناء الجاليات الإسلامية، وعلى مجال تعامل السلطات الحكومية الغربية.
ولعل أبرز هذه التحديات:
– الاختلاف في توثيق الأعياد والمناسبات وأوقات أداء صلاة الجمعة، وغير ذلك مما يرجع إلى تضارب المواقف في اتباع الأوطان الأصلية، أو ما تتفق عليه المنظمات واتحادات المسلمين في الدول الغربية، وهو ما يعتبر مشكلا للسلطات الغربية.
– الخلافات المذهبية الناتجة عن تضارب الفتاوى والاجتهادات في أمور الدين، حيث يلاحظ أن الفتاوى التي تصدر من البلدان الأصلية، أو تلتقط عبر الفضائيات التلفزيونية، تزيد من حدة الاختلاف والتباعد بين مكونات التعدد الثقافي الإسلامي في الغرب.
– عامل اللغة، حيث تشتغل كل جالية بخصوصياتها الثقافية والحضارية واللغوية، ولكل جالية لغتها التي تعتز بها، ولا تكاد تهتم بلغة الإقامة إلا في حدود ضئيلة. ولذلك أثبتت جل الدراسات الاجتماعية أن أهم عائق في اندماج أفراد الجالية المسلمة جهلهم بلغات دول الإقامة.
– تباين المستويات الثقافية للمسلمين، فبعض الجنسيات تمكنت من الاندماج أكثر من غيرها بحكم إتقان لغة وثقافة بلد الإقامة.
– الانغلاق والانكفاء وعدم القدرة على الانفتاح والتواصل والتعارف مع الطوائف الإسلامية المغايرة، ففي هولندا مثلا نجد أن الجاليات المغربية والتركية والسورينامية والباكستانية والإندونيسية لا يكاد يتواصل بعضها ببعض، مما يفرض على سلطات الدولة التعامل والتواصل مع كل طائفة على حدة.
ومن الواضح أن هذه التحديات تنعكس سلبا على كل المبادرات الرامية إلى توحيد صفوف المسلمين، فجميع مبادرات التوحيد تبوء بالفشل لأسباب مختلفة، وقد نجد داخل أوساط الجالية الواحدة عدة هياكل مؤطرة، وكل منها لا يعترف بالأخرى، بل كل واحدة تدعي تمثيلية الجالية.
أما على مستوى الآثار السلبية لهذا التعدد في علاقة المسلمين بالآخر فأبرزها:
– ظهور المسلمين في صورة متخلفة يطبعها التعصب وعدم القدرة على التسامح.
– عدم اطمئنان السلطات الغربية إلى التمثيليات الإسلامية القائمة التي لا تعبر عن واقع الأمور.
– ضياع كثير من المصالح التي تخدم المسلمين بسبب عدم وجود تمثيلية موحدة تتحدث باسم جميع المسلمين (تمويل المدارس الخاصة، قضية الذبح الإسلامي…).
– تفويت فرص تمثيلية المسلمين في المجالس البلدية والبرلمانية بسبب انعدام تكتلات إسلامية وازنة.
في ظل مقاصد الإسلام
لا يخفى أن مقاصد الشريعة الإسلامية في بناء مجتمع المسلمين قائمة على مبادئ الوحدة والأخوة والسماحة واليسر، وهو ما يقتضي في سياق الحديث عن التعدد الإسلامي في الغرب:
– ضرورة الاستعلاء عن حالة التمحور حول الذات، شخصية كانت أم مذهبية أم إقليمية، والارتقاء إلى مستوى الاهتمام بالكيان الكلي للوجود الإسلامي في الغرب.
– العمل على تذويب الغلو والتعصب المذهبي، والارتقاء بمفهوم الاختلافات المذهبية إلى مقاصدها، وإعادتها إلى جذورها الإسلامية الصحيحة، دون تعصب، بغرض إيجاد أرضية إسلامية صلبة للتعاون والتواصل، تكون قادرة على التفاعل مع المستجدات والمتغيرات، وواعية بحجم التحديات والرهانات المفروضة.
– الحرص على تقديم صورة صحيحة عن الإسلام وثقافته، من خلال تبديد عوامل الخلاف والتعصب، خاصة في ظل حملات الإساءة للإسلام.
من جهة أخرى؛ لما كان جلب المصالح ودرء المفاسد هو المقصد العام الذي يتوجب على المسلمين في بلدان المهجر وضعه في الاعتبار، فإنه باستيعاب مقاصد الشريعة السمحة والقواعد الفقهية التي تفتح أبوابا واسعة للتعامل الإيجابي في الأوساط الغربية، ومن خلال التوفر على إطار مرجعي لسلوك وتصرفات أبناء الجاليات الإسلامية إزاء الكثير من القضايا التي تعترضها، يمكن تحويل مجموعة من المفاهيم، من مفاهيم معوقات إلى مفاهيم إيجابية ودافعة لمسار حياتهم، نحو مزيد من الاندماج الإيجابي والمشاركة الفعالة.
كما أن فقه المهجر (فقه الأقليات) ينبغي أن يرجع في أساسه إلى المبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية القاضية برفع الحرج ونبذ الخلاف المؤدي إلى التفرقة، وتنزيل حكم تغير المكان على حكم تغير الزمان، والأخذ بفقه الموازنات والمصالح المرسلة، خاصة في ظل واقع مغاير تفرض ظروف الإقامة فيه التعايش الإسلامي- الإسلامي، والاتحاد في معالجة القضايا الكبرى التي تهم جميع المسلمين، وتنطوي على مصالح عامة تستجيب لتطلعات أبناء الجاليات الإسلامية في تجاوز تام للقضايا التقليدية ذات الطابع الفردي، المتعلقة بالطعام الحلال, وثبوت الهلال وغير ذلك، إلى قضايا أكثر دلالة وأعمق أثرا، ذات صلة بحقوق المواطنة, والاندماج, والهوية الإسلامية، وتصحيح صورة الإسلام في الغرب.
أخيرا، لا بد من أجل تجاوز التحديات المطروحة من أن تخرج مكونات التعدد الإسلامي في الغرب من عزلتها, وتغادر خلافاتها, والتعصب لمواقفها لكي تنخرط في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية للوجود الإسلامي في الغرب، ضمن إطار متكامل وكيان موحد، تعيش في ظله كل طائفة إيمانها وتؤدي شعائرها الدينية بطريقتها، لكن تجتمع على كلمة سواء فيما يخص القضايا العامة والمصالح المشتركة، ويبقى المسلم مطالبا بالتصرف باعتباره مواطنا, وأن يكون مطلعا على القوانين المنظمة للحياة في تلك البلاد، وفوق هذا لا بد أن يسري في الجاليات الإسلامية شعور حقيقي بالانتماء إلى المجتمع الذي يعيشون فيه، دون ذوبان أو تخل عن الثوابت والمبادئ، إذ لا معنى لاندماج إيجابي يستجيب لمقتضيات الإيمان الجماعية مع وجود شباب لا ينفتحون على المجتمع بصفتهم أفرادا مسلمين ومواطنين، وإنما يتقوقعون في دوائر مغلقة، متجاهلين محيطهم الاجتماعي والثقافي؛ فالاندماج باعتباره فعلا حرا وطبيعيا للتكيف مع المحيط الذي يعيش فيه الفرد، لا يتعارض بتاتا مع تأكيد الهوية والحفاظ عليها.
———-
المصدر: الوعي الإسلامي
[ica_orginalurl]