عدنان حسن باحارث **
تذخر الساحة الإسلامية المعاصرة بعدد كبير من الدعاة المصلحين، ينشطون في العديد من ميادين الدعوة، والإرشاد، والتعليم، وأعمال البر، والتأليف، يجمعهم همُّ الدين،
والنهوض به، في عصر تكالب فيه الأعداء على أمة الإسلام من كل صوب وناحية: يقتلون، وينهبون، ويتآمرون، حتى غدت الأمة محطاً للأطماع، وساحة للصراع، وموضعاً لنفوذ الآخرين، حتى تقطعت أوصال الأمة، وتفرقت كلمتها، وتشعبت أهدافها، ودخل عليها الخلل في كل جوانبها، وأصابتها النكسات في جميع خطوات مسيرها الحديث، وغدت متأخرة عن الجميع في كل مرافق وأنشطة الحياة العلمية منها والعملية، المدنية منها والعسكرية، لا تكاد تحسن شيئاً من أمور الدنيا التي تفوق فيها الآخرون، ولم تحرز شيئاً ذا بال من أمور الآخرة التي يحرص عليها الأولياء الصالحون؛ فلا هي من أمر الدين، ولا هي من أمر الدنيا؛ إلا أن يرحم الله.
إن هذا الواقع المؤلم لا يناسب أمة كلَّفها الله -تعالى- الشهادة على الناس، وخصَّها بالكتاب المنزل، والسنة المطهرة، فكان لزاماً على دعاة الحق من العلماء، وطلاب العلم، وأهل الخير: أن ينهضوا بواجب الإصلاح الشامل، ليعيدوا – بإذن الله تعالى – الأمة إلى موضعها الذي بوّأها الله -تعالى-، فإن وصف الخيرية لم تنله الأمة إلا بقيامها بالدين، وأخذه بقوة وصدق وأمانة.
وإن من أهم أسباب النهضة الإصلاحية، ومن أعظم وسائلها: إعداد الداعية المسلم الذي يحمل الشخصية الاستيعابية التي تتعامل مع القضايا المختلفة، والمتغيرات المتنوعة بطريقة استيعابية تشمل الجميع، وتتعامل مع مختلف القضايا والمتغيرات بصورة شمولية، بحيث تجد المتغيرات المتنوعة موضع اهتمام من شخصيته، فلا يفوته في مسيرته الدعوية الاهتمام الشامل بقضايا الأمة الكبرى، مع رعايته لمشكلاتها الصغرى، ولا يغيب عنه في حركته الدعوية الدؤوبة فقه الأولويات، وتقديم الأهم على المهم، فيقدم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير، لا سيما عند تعارض المصالح، وتداخل المفاسد، فإن أزمات الأمة في هذا العصر بلغت حداً عظيماً من: التعقيد، والتشعب، والتداخل، وغدا التشابك بين المصالح والمفاسد في غاية التعقيد، حتى أصبح الاجتهاد الصائب في القضايا المعاصرة من أشد المحكَّات، وأصعب الاختبارات التي تميِّز بين الدعاة، وتفرِّق بين مراتبهم، ودرجة فطانتهم، وعمق فقههم؛ فقد تغيب عن الداعية زوايا مهمة عند تناوله لمشكلة ما، فتراه يعطي جانباً من المشكلة جلَّ اهتمامه، غافلاً أو ناسياً جوانب المشكلة الأخرى التي قد تكون الأهم والأقرب لحلِّها وهذا قصور في صفة الاستيعاب التي تميِّز الدعاة بعضهم عن بعض.
ومما يجلِّي الأزمة الاستيعابية في فقه الدعوة الإسلامية المعاصرة: ضعف قدرة الداعية وقصوره عن استيعاب الساحة الدعوية، بحيث يستوعب جزءاً من الساحة بتفوق، في مقابل خسارة جزء آخر منها، فلا تقوم قدراته: الفكرية، والنفسية، والأخلاقية، ولا تطاوعه شخصيته لاستيعاب الساحة بأجمعها؛ فترى غالب الدعاة في الساحات الدعوية بين محب ومبغض، ومقبل ومدبر، ولا تكاد تجد الدعية الذي اتسعت نفسه، واحتمل خُلُقه الجميع، بحيث تجد الساحة المتعطشة عنده فسحة للقبول، ومساحة للحركة، فيغترف الكل من معينه الثري ما يناسبه من زاد الدعوة، فلا يكاد يحتك به أحد، أو يطَّلع على إنتاجه الدعوي إلا ويجد عنده قواسم مشتركة تصلح للتعاون والاستثمار، وقبيح من الدعاة ألا يجد المتعطشون عندهم مورداً ولو صغيراً يصلح لهم، ويوافق حاجاتهم وتطلعاتهم، وقبيح أيضاً من الساحة الدعوية أن تهمل البحث في شخصيات الدعاة عن القواسم المشتركة التي ينتفعون بها، ويمكنهم من خلالها التعاون على البر والتقوى.
ولئن كان اختلاف مشارب الدعاة، وتنوع أساليبهم، وتعدد اهتماماتهم؛ يعد في الجملة ظاهرة دعوية صحية؛ وذلك ليشملوا باختلافهم، وتنوع أساليبهم، وتعدد اتجاهاتهم واهتماماتهم: حاجات الساحة الدعوية المتعددة والمتنوعة والمختلفة التي تفتقر لجهود الجميع وأساليبهم وطرائقهم؛ إلا أنه مع ذلك تبقى الحاجة ملحَّة إلى الداعية الشمولي الذي يستوعب بفكره، وخلقه، ونفسه الساحة الدعوية كلَّها؛ إذ إن القيادة الدعوية -التي تفتقر إليها الأمة الإسلامية المعاصرة- لا تتحقق بكمالها، ولا تتم بطواعية إلا لداعية شمولي، قد استوعب الساحة بأكملها، وضرب بسهم صائب في كل جانب من جوانبها المتنوعة، فكما أن الأمة تعيش أزمات: اجتماعية، وأخلاقية، واقتصادية، وسياسية…؛ فإنها أيضاً تعيش أزمة القيادة الدعوية التي تجتمع عليها القلوب، وتسعد بها النفوس، ويسلِّم لها الجميع.
إن من أرذل مسالك الداعية أن تضعف قدرته الاستيعابية إلى حدِّ أنه إذا ربح ساحة دعوية جديدة فقد مقابلها ساحة أخرى كان قد استوعبها من قبل بكفاءة، حتى إن أحدهم -بكل سهولة، وعدم مبالاة- يفقد بعض محبيه في ساحة الدعوة، مع قدرته على الإبقاء عليهم بسهولة، ومع ذلك لا يبالي بفقدهم، وكأن من متطلبات النجاح في ميدان ما: الإخفاء في آخر، وهذا لا شك ضعف في شخصية الداعية، وقصور في قدرته الاستيعابية، وخلل في مفهومه للشمول.
ومما يوضح أزمة الاستيعاب في واقعنا الدعوي المعاصر هذه القصة الواقعية، وملخَّصها أن جمعاً من طلبة العلم حضروا في بيت أحد الفضلاء على شرف أحد الدعاة المشهورين، وبعد أن ألقى الشيخ الداعية كلمته: قام أحد الحضور من المحبين للشيخ، وممن سبق للشيخ معرفته؛ بطرح موضوع جوال الكاميرا -وكان ذلك قبل فسح بيعه في السعودية- حيث حذَّر من خطورته على العورات والأخلاق، وما قد يسببه من التدخل في الخصوصيات الشخصية للناس ولاسيما بالنسبة للنساء، ورغب من الشيخ أن يعلِّق على الموضوع، فما كان من هذا الشيخ الداعية إلا أن التفت إلى هذا الشاب بكلمات حادة وجافة فيها تسفيه لرأيه، وتعريض به وبأمثاله ممن يتوجَّسون من التقدم التقني، مهوِّناً في ذلك من شأن هذا الجهاز الجديد، ومستخفًّا بمخاطره الأخلاقية والاجتماعية، ففوجئ الحضور باندفاع الشيخ، وقسوة عباراته؛ فحاول الشاب أن يقترب من الشيخ ويجلس بجواره على مائدة الطعام لعله يوضح له أمراً خفي عليه؛ لاسيما وأن موضوع جوال الكاميرا لم يُبحث في ذلك الوقت من المهتمين، فإذا بالشيخ الداعية يزيد على ما سبق بعبارات أغلظ يصعب السكوت عنها فضلاً عن قبولها، فقد قال للشاب فيما قال له: “ما المشكلة لو خرجت صورة زوجتك للناس؟ فإن العالم لن يهتم بذلك، فصور النساء كثيرة وفي كل مكان)!! فما كان من الشاب إلا أن انسحب من المجلس بهدوء، ومضى مكلوماً إلى بيته دون أن يرد على الشيخ الداعية احتراماً لصاحب البيت، ورغبة في تهدئة الموضوع، وعندها الْتفَّ بعض الشباب حول الشيخ يراجعونه في هذا الموضوع، وإذا بالشيخ يقرهم بالفعل على خطورة هذا الجهاز على الأخلاق، وأنه يحتاج إلى ضبط!! وقد كان بإمكانه أن يقرَّ بذلك من أول الأمر، ويكسب المجلس، ثم يقول بعد ذلك ما يريد، وعندها يقبل الناس منه، ولكنه للأسف ضعفت قدرته الاستيعابية عن ذلك.
هذا موقف واحد من مواقف كثيرة يخسر فيها الدعاة أنصاراً وساحات وميادين كان بمقدورهم كسبها بسهولة لو أنهم تأنوا وتبصروا، فقليل من الروية، وشيء من الحكمة؛ تصنع الكثير بإذن الله تعالى.
لقد ضرب لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى في نهج الشمول والاستيعاب للساحة الدعوية، فعلى الرغم من تنوع الطبيعي في مجتمع المدينة المنورة، واختلاف طبقات الناس، وتعدد فئاتهم؛ استطاع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يرعاهم جميعاً، ويشملهم باهتمامه، ويستوعبهم ضمن نطاق الدعوة؛ فلم يفته في مسيرته الدعوية صغير ولا كبير، ذكر ولا أنثى، عبد ولا حر، شريف ولا وضيع، الكل وجد ساحة تستوعبه في شخص رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، حتى إنه ليكني الصغار، ويعطف على الإماء، ويتلطَّف بالجواري، إضافة إلى رعايته لأصحابه، واهتمامه بعامة الناس ورؤوسهم، فضلاً عن رعايته لأهله، وعبادته لربه، وأعجب من هذا كلِّه أن يستوعب فئة المنافقين، ويشملهم بشخصه الكريم؛ حتى إنه ليتلطَّف بالمنافق الأكبر: عبدالله بن أبي بعد أن قال ما قال من القول الغليظ، فقد صلى عليه، وحضر قبره، واستغفر له، وألبسه قميصه، فإذا كان المنافق يجد ساحة للقبول والحركة عند صاحب الرسالة – عليه الصلاة والسلام – أفلا يجد المسلم العادي – فضلاً عن المسلم الصالح – موطئ قدم عند داعية معاصر؟
———-
** المصدر: موقع لجينيات.
[ica_orginalurl]