خاض الفلاسفة قديما وحديثًا في ماهية الكون وحقيقته، كما خاضوا في تفسير انبثاقه ووجوده، وكثرت النظريات والتفسيرات لمحاولة تفسير هذه المعضلة التي هي أهم مسائل البحث الفلسفي عبر تاريخه، ولا جرم أن تجد الاختلاف بينهم قد ضرب جذوره بعمق، فكل يعتمد على عقله وما يمليه عليه استدلاله الشخصي فيقدح الأول في قول الثاني ويطعن الثالث في قول تاليه، ولا عجب إن علمت أنهم لم يعتمدوا على وحي معصوم ولم يكن لهم أثارة من علم إلهي ولا دليل رباني، ولو كان الحديث من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا.
وكنا أشرنا في براهين إثبات وجود الإله إلى ما يسمى بدليل السبر والتقسيم الحاصر القاصر، وفي هذا المقال ستجد أن هذا الدليل هو العمدة في استخلاص التفسير الصحيح لوجود هذا الكون لنخلص في النهاية إلى نتيجة لا نريد أن نعجِّل بذكرها ابتداء حتى يسير القارئ في تسلسل فكري منطقي سليم يمكنه من التدرب على ترتيب الأفكار وفحصها وتمحيصها واستبقاء ما يصلح منها وطرح الباقي.. هناك أربعة احتمالات لا خامس لها لتفسير هذا الكون، ونحن حينما نذكر الاحتمالات فإننا نذكر كل احتمال ممكن وإن رآه القارئ سخيفًا، ولكن هذا السخف لم يمنع بعض الفلاسفة من القول به واعتقاده والانتصار له، وسنعرض الاحتمال مع نقده وتبيين صحته أو بطلانه.
الاحتمال الأول:
أن هذا العالم مجرد وهم لا حقيقة له، ربما يكون حلمًا كأحلام النائمين وربما يكون جنونا كهذيان المحمومين وربما يكون خيالا كتخيلات المجانين. وأبرز المحاولات المنهجية التي برزت للرد على هذا الاحتمال اللاعقلاني هي محاولة الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت وكان قد برز بعد عصر ظهرت فيه أزمة الإصلاح الديني على يد مارتن لوثر كينج ثم أزمة التشكيك في الموروثات العلمية القديمة على يد كوبرنيكس عندما ثار على النظام البطليموسي القديم، أتى ديكارت ليبدأ من الشك إلى اليقين وكان وهو عالم الرياضيات- يحاول أن يجد إثباتات فلسفية تحمل ذات القدر من الدقة والموثوقية التي يمكن الوصول إليها في حل مسائل الرياضيات.
انطلق ديكارت من باعثين:
1- أن الحواس تخطئ كثيرًا وهذا الخطأ يفقدنا الثقة في الانطباعات الناتجة عن هذه الحواس.
2- وراء هذا العالم شيطان شرير يصور الواقع دائمًا بصورة زائفة وهذا الشيطان هو سيد الوهم أو “Master of Illusion” وبنى على ذلك أنه إن لم نثق في الحواس فإننا لن نستطيع أن نخرج من أذهاننا ونتواصل مع العالم الخارجي.
وبعد هذه المقدمات أبرز ديكارت شعاره “كوجيتو إرجو سوم” والذي معناه أنا أفكر إذن أنا موجود، وأثبت ذلك كالتالي: مهما أصابتني الشكوك في الواقع فالأمر الوحيد الذي لا يمكنني أن أشك فيه هو أنني أشك، لأنني إن كنت أشك في شكوكي فيجب أن أشك في ذلك الشك، وعليه فلا يمكنني أن أهرب من حقيقة “أني أشك”.
ثم قال: وجود الشك يتطلب وجود الإدراك والتفكير والوعي لأن الشك من أعمال الفكر، فبدون التفكير لا يكون الشك، ثم إن الشك يتطلب مشكِكا كما يتطلب التفكير مفكِرًا، وعليه فإذا كنت أشك فإني أفكر وإن كنت أفكر فلابد أني كائن موجود لأن غير الموجود لا يستطيع أن يفكر ومن لا يستطيع أن يفكر لا يقدر أن يشك، وبما أنه لاشك في كوني أشك فإن الأمر يعني أيضا أنني أفكر وإن كنت أفكر فأنا موجود.
وقد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة أن هذا الكلام هو محض سفسطة لا داعي لها، لكن الحقيقة أن ديكارت اعتمد في منهجه هذا على مبدأين ضروريين لا يمكن القدح فيهما:
1- قانون عدم التناقض ومعناه أن النقيضين لا يجتمعان معًا، فلا يمكن اجتماع الشك وعدم الشك في محل واحد، لأنه إن كان يشك في كونه يشك فالشك يلزمه بالضرورة، وإن كان لا يشك في الشك فالشك إذن موجود.
2- قانون السببية: عندما يقول إن الشك يستلزم مشككِا فذلك يؤدي إلى أن الشك نتيجة تستلزم سببا سابقا وهو الشاك أو المفكر. توصل ديكارت إلى أنه أيًا كان الأمر الذي يشك فيه فإنه لا يمكن أن يشك في كونه إنسانا واعيًا ذاتيا موجودًا، وأن وجوده ليس وهمًا، وهو لم يعتمد على الحواس في إثبات وجوده بل اكتشف ذلك من خلال عمليات التفكير الداخلية في الذهن، وبذلك يصل إلى أن هذا الوجود ليس وهمًا، وإن كانت هناك أوهام فليس معنى ذلك أن كل ما في الوجود هو محض وهم. يبقى أن نقول إن منهج ديكارت في شكه المنهجي وجهت إليه انتقادات وجيهة لكنه في النهاية استطاع أن يبرهن على وجوده من داخله، وبهذا نكون قد استبعدنا الاحتمال الأول اللاعقلاني الذي يزعم أن كل ما في الكون هو “وهم”.
الاحتمال الثاني:
أن الكون قد خلق نفسه وأوجد ذاته من العدم. وهذا الاحتمال معناه أن الكون حتى يخلق نفسه يلزم منه أنه كان موجودًا قبل أن يكون موجودًا، أي يلزم منه أن يكون وأن لا يكون في نفس الوقت والإطار فيؤدي إلى التناقض. وقد زعم بعضهم أن الصدفة هي التي أوجدت هذا العالم حيث قالوا إن المكان والزمان والصدفة تؤدي إلى إمكانية القول بأن الكون خُلِق ذاتيًا.
لكن علينا أن نعلم أن الوضع الأنطولوجي “الوجودي” للصدفة= صفر، فليست الصدفة شيئًا يعمل ويؤدي إلى تحقيق أمر آخر، إنها ببساطة أمر ذهني يشير إلى احتمالات رياضية حسابية، وإذا كانت الصدفة لا وجود لها فلا قوة لها، لأن الأمر الغائب وجوديًا لابد وأن يكون معدوم القوة لأن القوة صفة للذات الوجودية، فإذا عدمت الذات انعدمت الصفات، وحينئذ نتوصل إلى أن الصدفة ليست بشيء، فعندما نقول أن الصدفة أوجدت الكون فإن معنى هذا أن اللاشيء قد أوجد الشيء، ويكفي هذا ظهورًا في تهافت هذا الاحتمال لتفسير وجود الكون.
الاحتمال الثالث:
أن الكون موجود قديم بذاته، وعوامل وجوده منبعثة من ذاته فهو موجود أزلا ومستمر أبدا. وهذا الاحتمال قد رده علماء الإسلام في مناقشة حجج القائلين بقدم العالم ببراهين كثيرة، وقد أتت نظرية الانفجار الكبير لتقضي على هذا التصور وتثبت أن العالم ليس أزليًا بل إنه يمتد إلى حوالي خمسة عشر مليار سنة وفق تقديراتهم العلمية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ولو سلمنا بقدم العالم فإن القانون الثاني للديناميكا الحرارية يثبت أنه في نظام مغلق فإن الأمور تميل إلى عدم الانتظام والفوضى مع مرور الوقت، والملاحدة يزعمون أن هذا العالم نظام مغلق فلو كان العالم أزليا فإنه قد مر عليه وقت كافٍ لحصول الفوضى والاضطراب فيه، وحيث إن ذلك لم يحدث بعد فإنه دال على أن العالم ليس موجودا بذاته، ولا يحتوي على مقومات وجوده من ذاته وليس أزليًا ولا قديمًا.
الاحتمال الرابع:
أن لهذا الكون موجِدًا يمتلك صفات الوجود من ذاته، وهو السبب في وجود هذا العالم وهو عند أتباع الديانات الثلاث هو “الله الخالق”. بهذه القسمة التي استبعدنا فيها بالدليل العقلي والعلمي المختصر كل الاحتمالات المفسرة لوجود الكون يتبين لنا أن الإله موجود، ليس هذا فحسب، بل إنه موجود موجِد- سبحانه وتعالى- وهذه النتيجة وحدها كافية في إثبات خالقه الله لهذا العالم بكل ما فيه من حياة وغيرها، لكننا نتطرق وبنفس الأسلوب المنهجي لذكر احتمالات تفسير ظهور الحياة على كوكب الأرض لكي نستبعد كل احتمال باطل ولا يبقى إلا الحق الذي لا حق غيره.
احتمالات تفسير ظهور الحياة:
1- التولد الذاتي
وهو القول بأن الحياة نشأت من مواد جمادية “لا عضوية” ليس لها أصل حيوي، ويرى أصحاب هذا الرأي أن الحشرات التي تعيش على النباتات نشأت من قطرات الندى، والضفادع نشأت من طين المستنقعات.
والذباب قد نشأ من الخشب المتعفن حتى قال “فان هيلمونت” أحد العلماء في القرن السابع عشر: إنه يمكن للفأر أن يتولد من قميص متسخ، وبعض حبوب الحنطة في غضون واحد وعشرين يومًا. وقد تلاشت هذه الفكرة عندما قدم “لويس باستير” تجاربه وأبحاثه التي أثبت فيها أن الكائنات الحية الدقيقة لا يمكن أن تتشكل بدون وجود أسلاف تشبهها. ويتفرع عن هذا الاحتمال احتمال يقول: إن المواد العضوية قد نشأت عن مواد غير عضوية في وقت معين من الزمان ويعترف المنصفون –حتى من الذين يميلون إلى الفكرة الإلحادية- أن هذه النظرية لا تدعي القدرة على وصف تلك الظروف التي ظهر فيها أول جزيء عضوي من مادة غير عضوية، كما أنها لا تدعي القدرة على تكرارها من جديد في المعمل(1)، وإن كانت هناك محاولات حثيثة لم تنجح أي منها لمحاكاة الظروف الحقيقية لبيئة الأرض الأولى.
2- الأصل الكوني للحياة
ويزعم أصحاب هذا الرأي أن الحياة قد انتقلت إلى كوكب الأرض من كوكب آخر أو من مجموعة شمسية أخرى، ولو افترضنا جدلاً صحة هذا الرأي وتجاوزنا كل العقبات التي قد تواجه البكتيريا في رحلتها المضنية إلى كوكب الأرض، حيث الإشعاعات المميتة ودرجات الحرارة القاتلة. أقول: لو تجاوزنا هذه العقبات فإننا لم نصنع شيئًا غير أننا نقلنا المشكلة من كوكب الأرض إلى كوكب آخر، ويبقى السؤال مطروحًا، ما هو أصل الحياة على ذلك الكوكب الآخر؟، ولذلك فإن هذه النظرية “تحاول حل مشكلة كيفية بدء الحياة عن طريق تجنبها أو على الأصح إرجائها إرجاء دائما” (2).
3- الخلق الخاص
وهي النظرية، وإن شئت فقل: العقيدة التي يؤمن بها كل من آمن بكتاب سماوي -وإن حُرِّف-، وهو أن الله قد خلق كل الكائنات خلقًا خاصًا، وهذا الخلق يستلزم علما وقدرة وإرادة.. إذ لا يصدر هذا العالم بكل ما فيه من إبداع إلا عن فاعل متصف بهذه الصفات، وهو الخلاق العليم سبحانه، “وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا” (الفرقان:2)، وقال تعالى: “أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ” (الأعراف:54) وتبقى هذه المعضلة -معضلة أصل الحياة- هي المعضلة الكبرى التي تواجه الملحدين خاصة المؤمنين منهم بالداروينية، حيث إن الداروينية تفسر ما بعد الخلية الحية الأولى، ويبقى السؤال مطروحًا عليهم: من الذي بدأ الحياة وأوجدها من العدم؟
_____________________________
المصدر: موقع مجلة البشرى
[ica_orginalurl]