مع أن فئة قليلة من الملحدين -في بلادنا- هم من يكون إلحادهم لأسباب علمية، إلا أن هذا السبب يغفله كثيرٌ من المفكرين أو الدعاة عندما يعالجون موضوع الإلحاد رغم أنه الأخطر والأعمق تأثيرا في النفس…
البراء العوهلي
ظاهرة الإلحاد من الظواهر المعقدة التي قد تتداخل فيها العوامل الفكرية والنفسية والاجتماعية؛ ولذا فإن تحليلها والبحث في أسبابها يحتاج إلى جهد كبير وبحث دقيق من مختصين في الفكر والدين والفلسفة وعلم النفس والاجتماع، وهذه مجرد محاولة بسيطة لتحليل الأسباب والدوافع التي قد تدفع ببعض شبابنا إلى الإلحاد أو ترك الدين، وهي جهد المقل الذي أرجو أن أقارب به المشكلة التي بدأ كثير من المصلحين يتساءل عنها وعن أسبابها.
لمراجعة الجزء الأول من المقال يمكنكم الضغط على العنوان التالي:
الإلحاد.. محاولة لفهم الظاهرة (الجزء الأول)
تابع أهم الأسباب التي قد تدفع ببعض الشباب إلى الإلحاد
11- تمزق الأمة وتفرقها:
تمزق الأمة وتشتتها وتفرق كلمتها هو مما يدفع بعض الشباب للحيرة والتساؤل، ومع أن هذا التفرق هو مما أخبر به الرسول -عليه الصلاة والسلام- إلا أنك تجد هذا الشاب يحتار عندما يرى أمامه مذاهب شتى لا يعلم أيها يمثل الحق، وحينها يبدأ بالتساؤل، ومع أن البحث والتساؤل أمر محمود إلا أن بعضهم قد يفضي به التساؤل إلى رفض الدين كله، وهذا حاصل رغم أنه قليل، ولهذا أظن أن هذا السبب ذو أثر ضعيف.
١٢- واقع المرأة:
ربما يكون هذا السبب مفاجئا ولكن عددا غير قليل من الفتيات اللواتي تركن الدين كان الواقع أو الاضطهاد الذي تعانيه المرأة باسم الإسلام هو شرارة البداية التي جعلتهن يتركن الدين و يستاءلن عن مدى صحة هذا الدين أو ملاءمته وعدله.
13- الجفاف الروحي:
أؤمن بأن الابتعاد عن الله وعن الاتصال الروحي به سبحانه قد يجعل الإنسان عرضة بشكل أكبر لأن تتقاذفه الشكوك والشبهات فينجرف معها، مع التأكيد على أن هذا ليس ضروريا فقد تعتري الإنسان شبهات وشكوك تمزق قلبه رغم أنه كثير العبادة وقريب من الله سبحانه.
14- الاندفاع والعجلة:
الشخصية المندفعة والعجولة قد تكون أكثر عرضةً للإلحاد بمجرد أن تعتريها بعض الشبهات أو الشكوك وهذا ملاحظ للأسف وهو دلالة على قلة الحكمة والصبر!، أبو حامد الغزالي -رحمه الله- صبر سنوات طويلة من عمره على مرارة البحث والشك إلى أن بلغ درجة اليقين، ولكن بعض شبابنا بمجرد أن تعتريه شبهة أو اثنتان يتعجل ويقرر أن يترك الدين وينفي وجود الرب!
15- الاعتداد بالذات والغرور المعرفي:
هذا من أمراض القلوب التي قد تقود الإنسان إلى الزيغ، وأؤمن أن الغرور المعرفي والثقافي قد يقود الإنسان إلى الانحراف الفكري.
16- سطوة الشهوات ومحاولة الهروب من وخز الضمير:
ربما لا يمكن أن يكون هذا سببا مستقلا وحدَه، ولكنه قد يكون بمنزلة المحفز للجوء لخيار الإلحاد كي يهرب الإنسان بهذا من وخز الضمير.
من طبيعة الإنسان أن ضميره يؤنبه عندما يقترف ما يرى ويعتقد أنه خطأ، وهذه دلالة على أن ضمير الإنسان ما زال حيًّا، هناك بعض الشباب ممن لا يستطيعون الصبر أمام المد الجارف من الشهوات، وضميرهم يؤلمهم ويؤنبهم إن عملوا المعاصي، وساروا وراء الشهوات، فيلجؤون للإلحاد كي يهربوا به من وخز الضمير ويقترفون ما شاؤوا من الشهوات دون أن يؤنبهم ضميرهم!
أؤكد أن هذا لا يمكن أن يكون سببا مستقلا بذاته، وإنما لا بد من وجود تراكمات وشكوك قبلها، وحب الشهوات ومحاولة الهروب من وخز الضمير دوره فقط هو في أن يجعل لخيار الإلحاد جاذبية أكبر تميل له النفس وتهواه، وربما دون أن يشعر الإنسان بتأثير هذا الهوى في نفسه!
17- السطحية الفكرية:
لست ممن يدعو لمنع الكتب وممارسة الوصاية الفكرية، ولكن الواقع أن هناك عددًا من الشباب الذين يتأثرون سريعا بما يقرؤونه دون أن تكون لديهم ملكة نقد سليمة للمقروء، فتجد أحدهم يقرأ في بعض كتب الفلسفة أو الأديان وسرعان ما يتأثر بها ويتشرب هذه الأفكار دون أن يمحصها ويقلب النظر فيها، بل إن بعضهم تبلغ به السطحية أن تتقلب أفكاره مع كل كتاب يقرأه، فتكون حالته الفكرية الحالية هي انعكاس للكتاب الذي يقرأه الآن!
ورغم هذا فإني لا أضخم دور هذا السبب كما يفعل كثيرون فما ذكرته من أسباب سابقة أكبر تأثيرا، وقد عَنوَنت لهذا السبب بـ(السطحية الفكرية) لأؤكد أن الخلل هنا في فكر القارئ وليس في ذات الاطلاع على الأفكار المختلفة فهو أمر مشروع.
18- الأسباب العلمية الطبيعية:
مع أن فئة قليلة من الملحدين -في بلادنا- هم من يكون إلحادهم لأسباب علمية، إلا أن هذا السبب يغفله كثيرٌ من المفكرين أو الدعاة عندما يعالجون موضوع الإلحاد رغم أنه الأخطر والأعمق تأثيرا في النفس.
القرآن الكريم -بحمد الله- لا توجد به آيات تناقض ما يؤكده العلم بشكل صريح، وهذا من عظمة هذا الكتاب المدهش، أما التوراة فقد تورط كاتبوها في مشكلة كبيرة فيما يتعلق بالخلق وتفاصيل الخلق، وكثير منها تناقض ما توصل له العلم بشكل قطعي، وهذا ما جعل التمسك بالدين المسيحي أو اليهودي خيارا صعبا للإنسان الذي يحترم العلم، وربما لهذا السبب نجد أن من يلحدون لأسباب علمية في الغرب أكثر بكثير ممن يلحدون لأسباب علمية في بلاد المسلمين.
أهم النظريات العلمية التي قادت كثيرين للإلحاد هي نظرية التطور لداروين؛ لأنها تصادم وتعارض ما جاءت به الأديان من تفاصيل الخلق، وهي السلاح الذي يستعمله بعض الملحدين المتطرفين في الدعوة إلى الإلحاد ونبذ الدين.
إن الخداع العلمي -المقصود أو غير المقصود- الذي يمارسه كثير من المنتسبين للدين أو الفكر الإسلامي فيما يتعلق بنظرية التطور أثَّر بشكل سلبي في كثير من الشباب، فحينما يلقن الشاب أن نظرية التطور تبين خطؤها وبطلانها وأنه حتى العلماء الغربيون أنفسهم صاروا يرفضونها وأن مناصريها كفروا بها وتراجعوا عنها…إلخ الكلام المعروف، حينما يلقن الشاب هذا ثم يكتشف أنه كلام غير صحيح وأن نظرية التطور هي النظرية المعتمدة والمقبولة لدى المنظمات العلمية العالمية، وتطبيقاتها العلمية كثيرة، ويتفق معها غالبية العلماء لا سيّما المتخصصين في علم البيولوجيا والجيولوجيا، حينها من الطبيعي أن تحصل ردة فعل لدى الشاب وقد يتخذ موقفا سلبيا فيقبل بنظرية التطور بشكل كامل ثم يجعل الإيمان بها مناقضا للإيمان بالخالق، فضلا عن الدين!
قد يكون في هذا تعجل واندفاع ولكنه حاصل، ومن المفارقة العجيبة أنك قد تناقش بعض المتخصصين في الأحياء فتجد أنه لا يتحمس كثيراً لنظرية التطور، ربما يقبلها بصفتها نظرية ولكن تجد لديه استشكالات أو تحفظات أو تساؤلات، وحتى إن قبلها تماما فإنه لا يتحمس لها كثيرا وكأنها عقيدة، ولكن في المقابل تجد بعض الشباب المندفعين وغير المتخصصين عندنا ما إن يشاهد حلقتين لريتشارد دوكينز حتى يصبح من أشد المؤمنين بها والمناضلين عن صحتها والمتهكمين بفكرة التصميم الذكي التي تقول بها الأديان، وهذا يؤكد أن ردة الفعل النفسية والاندفاع والتراكمات السابقة لها دور مؤثر في سلوك طريق الإلحاد، ولذا أؤكد أن هؤلاء الشباب الذي يلحدون لأسباب علمية هم في الغالب يعانون من تراكمات جعلتهم يضيقون ذرعا بالدين، ولهذا حين يواجهون هذه الإشكالات العلمية لا يلجؤون لخيار التوفيق بين دلالات بعض الآيات أو الأحاديث الصحيحة التي قد تخالف ما توصل له العلم وإنما يختارون ردها كاملة ورد الدين كله!
ومن المهم هنا أن نشير إلى من يمكن أن نسميهم بالـ(علمويين)، وهم الذين لا يقبلون بأي فكرة أو حقيقة إلا إذا أثبتها العلم، وعقائد الدين غالبها من أمور الغيب فالإيمان بالله والجنة والنار والملائكة كلها من شؤون الغيب، ومثل هؤلاء يصعب عليهم الإيمان بالدين لهذا السبب، ولكني أظن أن هذه الشريحة نادرة.
19- الإلحاد كموضة فكرية:
أحيانا تجد أن الإلحاد قد أصبح لدى البعض -في مجتمعاتنا الإسلامية عموما- مجرد موضة ومراهقة فكرية أو وسيلة للفت أنظار الآخرين واستعراض العضلات، وغالبا ما تجد هذا عند الأشخاص محبي الظهور والبروز ولفت النظر.
20- الاضطرابات النفسية:
قبل أن أشير إلى هذا السبب من المهم التأكيد على مسألة أن الاضطرابات النفسية ليست عيبا.. فهي في كثير من الأحيان تكون نتيجة إشكالات عضوية أو ظروف بيئية خارجة عن إرادة الإنسان ومن يهزأ بمن عندهم إشكالات نفسية هو في الحقيقة يهزأ بما قدره الله على الإنسان وهذه سخرية من قدر الله لا تليق بمؤمن ولا عاقل!
الاكتئاب هو من أهم الإشكالات النفسية التي قد تجعل الأفكار السلبية والسيئة تسيطر على الإنسان وقد تحدث نتيجة لهذه شكوك تربك عقله ولا يستطيع أن يتجاوزها، لا يمكن أن يكون الاكتئاب وحده سببا لذلك ولكن من الممكن أن يكون سببا مؤثرا وبشكل كبير، هناك من الشباب من حاول أن يعالج شكوكه بالفكر فلم ينجح، ولكن كانت حبوب (السيروكسات) أو (البروزاك) كفيلة بأن تمنحهم طمأنينة الإيمان قبل أن تكون علاجا للاكتئاب!
وهناك من كانوا غارقين في بحار الشك والحيرة ولكنهم بعد زواجهم استقرت نفوسهم واطمأنت وامتلأت قلوبهم بالإيمان، هذه الأمثلة تدل على أن للعوامل والظروف النفسية التي يمر بها الشخص تأثيرًا على حالته الإيمانية.
لدي قناعة أن كثيرًا من الآراء الفكرية المتطرفة أو الشاذة هي في حقيقتها مجرد تجليات لاضطرابات نفسية وإشكالات يعاني منها الشخص سواء كانت ميلًا للعنف أو تطرفا دينيا أو تطرفا إلحاديا وشكيا…وخلافه.
ومن الواضح أن معظم الأسباب السابقة التي أشرت إليها هي في غالبها ردات فعل نفسية وغير كافية لاتخاذ موقف من الدين بشكل كامل فضلاً عن إنكار الخالق، ولكن هذه هي طبيعة الإنسان الذي يبني مواقفه بناءً على ردود الأفعال.
قبل الختام، لا شيء يعدل الإيمان
من أخطر ما يمكن أن يواجه حياة الإنسان النفسية ويربك استقراره وطمأنينته أن يفقد إيمانه بالله، لأن الإيمان بالله هو ما يمنح هذه الحياة معنى وهدفا، ودونه يتمزق القلب وتتوه الروح وتغرق النفس في بحار العبثية والعدمية!
من يفقد إيمانه بالله يفقد الجوهر الأساسي الذي يشعره بقيمته وهدفه في الحياة، وهذا أمر مؤلم يمزق القلب ويربك الروح، لذا ليتنا نرفق بمن وصل بهم الحال لهذا الأمر ولا نزيدهم ألما على ألمهم وعذابا إلى عذابهم، وبدلا من أن نعين الشيطان عليهم ونخرس أسئلتهم ونتهمهم بالكفر ومرض القلب، بدلا من هذا كله يجب أن نحتضنهم، ونحاورهم، ونرفق بهم، فإن كثيرا منهم هم من أهل الصدق والنبل وحسن الخلق، وربما كان كثير منهم يتمسك بالأخلاق التي جاء بها الدين أفضل مما يتمسك بها المؤمنون.
ختاما، ما ذكرته في هذه المقالة من أسباب هي اجتهاد شخصي كان نتيجة بحث وسؤال واطلاع وتأمل وإلا فالموضوع أكبر تعقيدا، وقد طرحت هذا الموضوع؛ لأني وجدت كثيرًا من الفضلاء يتساءل عن أسبابه، ولأني أرى أن هناك تحديات كثيرة ستواجه الخطاب الديني في المستقبل، والفكر الديني بشكله الحالي غير قادر على التعاطي معها، وإن لم يهتم المتخصصون ببناء منطق إيماني جديد ومتماسك فإن النتيجة لن تكون مرضية، وستسوء كثيرين من المصلحين.
أسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويعيذنا من شر أنفسنا وأن يهدينا إلى الحق وإلى صراطه المستقيم، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، اللهم أسبغ على قلوبنا برد اليقين، وطمأنينة الإيمان، وحلاوة مناجاتك والقرب منك سبحانك.
_______________________________________________
المصدر: موقع المقال: https://www.almqaal.com/?p=1702
[ica_orginalurl]