نهال محمود مهدي*
كثيرون هُم المتحدثون في قضية الإعجاز العلمي ودلالاتها وصورها.. لكن القليلون فقط هم المتقنون لهذا العلم العميق، والواعون بأهميته وخطورته، أما الغالبية فقد تسببت -ربما بلا قصد- في إثارة قلاقل وحيرة وتساؤلات عديدة بين المتابعين لتلك القضية، تلك التساؤلات دعتنا لأن نتوقف عندهم قليلا، ونطرح عليهم مجموعة من الاستفهامات المشروعة والنبيلة الغاية: هل باب الإعجاز العلمي –في القرآن والسنة- مفتوح على مصراعيه أم أن هناك ضوابط تحكمه، وتحميه من هجمات المشككين؟ ما الوضع عند تغير إحدى الفرضيات العلمية بعد إثباتها للكتاب أو السنة؟، وهل يمكن اعتبار القرآن الكريم كتاب علوم تطبيقية وإنسانية وتجريبية بجانب كونه كتاب عقيدة وهداية باعتبار مبدأ شمولية القرآن؟… أسئلة عديدة أحاول من خلال استعراض آراء علماء ثقات بيان إجاباتها وتحليل مدلولها.
لا يمكن -بداية- أن أنكر أن هناك جدلية عميقة تخص هذا الموضوع.. آراء هنا.. ترى الإعجاز العلمي في كل آية أو حديث تَشَابه مع مكتشف علمي ولو مجازا! وآراء هناك تنفي الفكرة من أساسها وتراها عبثا بالكتاب والسنة.. غير أن ما اتفق عليه الطرفان هو الباعث الداخلي خلف كل رأي.. هو حب الدين والتصدي للدفاع عنه.. تارة بالسعي لإثبات صدق النبوة وسماوية القرآن الكريم، وتارة بالرغبة في أن ننأى بالكتاب والسنة عن صراعات العلم وجدالاته فنقيهما من طعنات المشككين والمتربصين.
ومن بين الحائرين الباحثين عن حقيقة ذلك الأمر استوقفني سؤال طرحه أحد رواد المواقع الإسلامية على شبكة الانترنت.. مخاطبا فضيلة الشيخ/ محمد صالح المنجد.. كان السؤال عميقا بما يكفي لعرضه كاملا دون تدخل[i]
السؤال: أثنى الله عز وجل في سورة آل عمران على الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض، وقد أثبت العلم الحديث توافق أشياء كثيرة مع ما ذكر في القران، ولكن مع هذا هناك بعض الناس ممن يقولون أنه لا ينبغي أن تنزل المكتشفات العلمية الحديثة على حقائق القرآن؛ لأن العلم دائماً في تغير مستمر، بينما القرآن معجز ثابت في كل زمان ومكان، فقد يكتشف العلم الحديث شيئاً ويسارع الناس لتنزيل هذا المكتشف على ما جاء في القرآن، ثم ما يلبث هذا المكتشف أن يتغير، أو يثبت عكسه، فيتأثر بذلك مَن في قلبه مرض. وقد قرأت مقالات لأحد العلماء يتحدث فيها عن العلم الحديث والقرآن، وأنهما لا يمكن أن يتعارضا مع بعضهما البعض، ولكن مع هذا كله ما زال كثير من الناس يصرون على عدم استخدام هذه الحقائق العلمية حتى في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام. فما رأيكم في ذلك؟
وكان الجواب الذي لم يخل من اعتراف بإفراط في المسألة وتفريط.. لكنه لم يكتف بإقرار الحال بل بين الضوابط، وحاول تقديم خريطة إرشادية للمتصدين لقضية الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة.
يقول الجواب:
النظر في قضية الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، هو كغالب القضايا العلمية والفكرية: يكتنفه طرفان: إفراط وتفريط، والتوسط بين هذين الطرفين عادة ما يكون هو الأوفق والأقرب للصواب:
- فمن الخطأ والتقصير الظاهر عدم الاستفادة من حقائق العلم الحديث في تفسير كثير من الآيات الكونية في القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة في السنة المطهرة، ونحن نؤمن أن خالق الكون ومنزل القرآن الكريم إله واحد، فلا بد أن تتطابق التفاصيل الواردة فيهما، والعلم الحديث خير معين على كشف هذا التطابق.
- ومن الخطأ الظاهر أيضا المبالغة في هذا التوجه، وتحميل الآيات ما لا تحتمل من أوجه المجاز المخالفة للسياق، أو المخالفة لما ثبت في السنة المطهرة من تفسير هذه الآيات، أو التسرع في عرض الفرضيات والنظريات على أنها حقائق علمية.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
“الإعجاز العلمي -في الحقيقة- لا ننكره، لا ننكر أن في القرآن أشياء ظهر بيانها في الأزمنة المتأخرة، لكن غالى بعض الناس في الإعجاز العلمي، حتى رأينا من جعل القرآن كأنه كتاب رياضيات، وهذا خطأ”.
فنقول: إن المغالاة في إثبات الإعجاز العلمي لا تنبغي؛ لأن تلك المكتشفات قد تكون مبنية على نظريات، والنظريات تختلف، فإذا جعلنا القرآن دالاًّ على هذه النظرية ثم تبين بعد أن هذه النظرية خطأ، معنى ذلك أن دلالة القرآن صارت خاطئة، وهذه مسألة خطيرة جدًّا.
ولهذا اعتُنِي في الكتاب والسنة ببيان ما ينفع الناس من العبادات والمعاملات، وبين دقيقها وجليلها حتى آداب الأكل والجلوس والدخول وغيرها، لكن علم الكون لم يأتِ على سبيل التفصيل .
ولذلك فأنا أخشى من انهماك الناس في الإعجاز العلمي وأن يشتغلوا به عما هو أهم، إن الشيء الأهم هو تحقيق العبادة؛ لأن القرآن نزل بهذا، قال الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)” انتهى[ii].
منهجية علمية سليمة
وقد قام كثير من الباحثين والعلماء المعاصرين –جزاهم الله خيرا– بكتابة الأبحاث العلمية الرصينة المتزنة في هذا الباب، وقامت لذلك هيئات علمية متخصصة، ومؤتمرات دولية، ومجامع عامة يمكن أن تثمر فيما تثمره تقعيدا مؤصلا منضبطا لقضايا هذا العلم الجديد، حتى يصل إلى درجة من الكمال الممكن، كحال كل علم ينشأ غرسا صغيرا، ثم يكبر ويثبت بدراسات العلماء الأفذاذ المتخصصين.
ونحن ننقل هنا بعض الضوابط المهمة للوصول إلى نتائج سليمة في هذا المنهج العلمي:
يقول الدكتور عبد الله المصلح حفظه الله:
“إن المراد بهذه الضوابط تلك القواعد التي تحدد مسار بحوث الإعجاز العلمي وفق الأصول الشرعية المقررة، مع الالتزام بالجوانب الفنية والعلمية المطلوبة”.
وتكمن أهمية هذه الضوابط في كونها مناط استرشاد للباحثين في الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، وخصوصا في هذا الوقت الذي كثر فيه إقبال الباحثين والكاتبين على هذا الموضوع لأهميته في الدعوة والإقناع، وذلك لتميز هذا العصر بالعلم ومكتشفاته، حتى أصبح العلم سمة من سماته.
وهذا الاهتمام من غير سير على ضوابط واضحة أوجد مزالق كثيرة حتى عند بعض المخلصين، وإسهاما في علاج ذلك جاءت هذه الضوابط علها أن تكون مانعا من الوقوع في تلك الأخطاء، وحافزا للكتابة في هذا الموضوع الحيوي.
والتزام هذه الضوابط يساعد كذلك على إنهاء الخلاف الفكري بين المؤيدين لموضوع التفسير العلمي والمعارضين له؛ لأن جوهر الخلاف بينهم يرجع سببه إلى تلك المظاهر الارتجالية التي لا يصدر أصحابها عن منهج صحيح.
وتلك الضوابط هي:
1- ثبوت النص وصحته إن كان حديثا، لتواتر القرآن دون الحديث.
2- ثبوت الحقيقة العلمية ثبوتا قاطعا، وتوثيق ذلك علميا متجاوزة مرحلة الفرض والنظرية إلى القانون العلمي.
3- وجود الإشارة إلى الحقيقة العلمية في النص القرآني أو الحديثي بشكل واضح لا مرية فيه.
فإذا تم ذلك أمكنت دراسة القضية لاستخراج وجه الإعجاز.
لم تنته الضوابط ولا المعايير التي وضعها العلماء عند إجراء البحوث المتعلقة بالإعجاز العلمي عند هذا الحد فهناك المزيد سأورده في الجزء الثاني من المقالة بمشيئة الله تعالى..
__________________________________
الهامش:
__________________________________
* باحثة وأكاديمية مصرية
[ica_orginalurl]