د. إبراهيم نويري
عُني الإسلام عناية خاصة بالكلمة الطيبة، واعتبرها سلاحه الأول في مواجهة الكلمة الخبيثة واستئصال بذور الشر من أعماق مكنونات النفس والمجتمع والعلاقات الإنسانية، ولقد احتلت الكلمة في النصوص الإسلامية المقدّسة أو المعصومة، أو في علاقات وارتباطات المجتمع الإسلامي مكانةً سامقةً أثيلة، لم تصل إليها البتة في حضارات ومدنيات ما قبل الإسلام.. وهكذا وجدنا الكلمة الطيبة قد أدت دوراً طلائعياً متميزاً وفاعلاً، سواء على مستوى تأسيس المجتمع الإسلامي الأول في المدينة، أو على مستوى مكتسبات حركة الدعوة والفتح الإسلامي.
وعلى صعيد الكلمة الطيبة، أو الكلمة المسؤولة، يقف الأدب الإسلامي في كلّ مرحلة من مراحل تطور المجتمع الإسلامي، في المقدمة للذود عن مبادئ هذا الدين والإسهام في الدعوة وإعطاء الصورة المشرقة الصادقة لحقيقة المجتمع وطبيعة الحضارة التي ينشدها الإسلام.. ونحن هنا نود التوقف قليلاً قصد التعرّف على التصوّر الإسلامي للأدب، وأبعاد هذا التصوّر في نطاق علاقة الإنسان بالكون والحياة والعلاقات البشرية.
الأدب في التصوّر الإسلامي
يرى الإسلام أن الأدب كسائر الفنون، هو تعبيرٌ موح عن قيم حية، وهواجس إنسانية ينفعل بها ضمير الفنان أو صاحب الروح الشاعرة، هذه القيم قد تختلف من نفس إلى نفس ومن بيئة إلى بيئة، ومن عصر إلى عصر، ولكنها في كلّ حال تنبثق من تصور معيّن للحياة، والارتباطات فيما بين الإنسان والكون والحياة، وبين بعض الإنسان وبعض(1).
فالأدب إذن -بالمعنى العام، أو وفق الرؤية الإسلامية- تعبير متكامل عن الحياة في شتى لحظاتها وحالاتها المختلفة، أو هو إعادة تصوير انفعالي لمختلف الظواهر والحالات والتفاعلات الإنسانية والنفسية.
ولعل من الخير في هذا السياق أن نميز بين ضربين من الأدب، ضرب يحاول أن يصور الإنسان في صورته المقهورة المستسلمة الراضخة، أي لحظات الضعف.. فهو يتتبع باستمرار زلات الإنسان وعثراته وكبواته، بما فيها تلك النابعة عن بشريته وطبيعته التي فُطر عليها، ويحاول دائما وبمختلف الوسائل أن يلطّخ الفضيلة ويُفسد العلائق الفطرية الطاهرة بين الناس؛ ويرى أنّ الأخلاق والحياء والمروءة إنما هي أغلالٌ يجب إزاحتُها.. ومن ثمة فإنه يحقّ لنا أن نسمي هذا الأدب: الأدب الأسود أو أدب الانحلال!
وضرب آخر يصوّر الإنسان في حالاته الواقعية، ويقدّر أنّ الإنسان ليس مَلَكاً يرفرف في الهواء، ولا هو كذلك حيواناً يقبع في الأرض.. بل هو في وضع خاص به يميّز إنسانيته وكينونته المتفرّدة ككائن مسؤول يحمل رسالة الاستخلاف والإعمار.. فهذا الأدب الذي يعبّر عن واقع الكائن البشري ويصف حقيقته كما هي، ولا يغالي في وصف ذلك الواقع فيقرّبه من الملائكة، ولا يهبط به أيضا إلى مستوى الحيوان. ويسعى على الدوام إلى أن يكون تعبيراً صادقاً عن توازن حياة الإنسان ووسطيتها هو الاتجاه الصحيح في الأدب، ولا ريب أنّ المفهوم الإسلامي للأدب هو من هذا الضرب الأخير.
يقول الأديب الألمعي سيد قطب رحمه الله: “إنّ الأدب أو الفن المنبثق عن التصوّر الإسلامي أدبٌ أو فنٌّ موجّه، بحكم أنّ الإسلام حركة تجديد وترقية مستمرة للحياة، فهو لا يرضى بالواقع في لحظة أو جيل، ولا يبرّره أو يزيّنه لمجرّد أنه واقع، فمهمته الرئيسية هي تغيير هذا الواقع وتحسينه والإيحاء الدائم بالحركة الخالقة المنشئة لصور متجدّدة من الحياة.
كذلك ليست وظيفة هذا الأدب أو الفن هي تزوير الشخصية الإنسانية أو الواقع الحيوي، وإبراز الحياة البشرية في صورة مثالية لا وجود لها؛ إنما هو الصدق في تصوير المقدّرات الكامنة أو الظاهرة في الإنسان، والصدق كذلك في تصوير أهداف الحياة اللائقة بعالم من البشر، لا بقطيع من الذئاب”(2).
وهكذا يستقرّ في الذهن والشعور أنّ الأدب الإسلامي، أو الأدب كما يريده الإسلام هو الأدب الذي يدفع الإنسان إلى الأمام، ويُطلقه من عقابيله وأوهامه، ويصوّر الحياة الواقعية بآمالها وآلامها سواء، ويشحن النفوس بالعزم، وينير العقول بالمعارف السليمة، ويدعو إلى التراحم والوقوف إلى جانب الحق والخير والعدل والجمال. أما الأدب الذي يصطدم بالتصوّر الإسلامي ولا يجد له مكانةً في واقع المجتمع الإسلامي الذي يتمثل الإسلام بحق، فهو الأدب الذي يتملّق الحقائق ويتاجر بعواطف الناس، ولا يقدّر مشاعرهم، ولا يصوّر الكائن البشري إلا في لحظاته الهابطة المتردية، لحظات الضعف أو الخضوع للضرورة، لا لحظات الترفّع والإكماخ والسمو والارتقاء.
وبدهي أنّ هذا الأدب أدبٌ مزوّر لأنه يحرّف حقيقةَ وواقعَ الطبيعة البشرية في شتى مظاهرها وصورها، ولأنه كذلك يُغفل في انفعالاته التصويرية بعضَ الجوانب الحيوية المركوزة في فطرة الإنسان وتركيبته الطبيعية.
المضمون في الأدب الإسلامي
يرى بعضُ الشانئين المتحاملين على الأدب الإسلامي أنّ هذا الأدب يفتقر في مضامينه إلى الجوانب الفنية والجمالية، بسبب مرتكزه الأخلاقي؛ وهذه الجوانب هي المنجز الحيوي الأهم في العمل الأدبي.
والواقع أنّ الأدب الإسلامي يحرص أشد الحرص على مضمونه الفكري النابع من قيم الإسلام العريقة وتصوراته عن الإنسان والكون والحياة؛ لكنه يجعل من ذلك المضمون ومن الشكل الفني نسيجاً واحداً معبراً أصدق تعبير.. ويعوّل كثيراً على الأثر أو الانطباع الذي يترسب لدى المتلقي، ويتفاعل معه، ويساهم في تشكيل وجدانه وصبغ مواقفه.. إنّ هذا الأدب يستوعب الحياة بكلّ ما فيها، ويتناول شتى قضاياها ومظاهرها ومشاكلها وفق التصوّر الإسلامي الصحيح لهذه الحياة(3).
إنه ليس من الضروري أبداً في الأدب الإسلامي بشتى أغراضه وآفاقه، أن يدور الكلام حول المفاهيم الدينية والعقدية وتفصيلاتها، وما تستحسنه تلك المفاهيم أو ما تستقذره وتستهجنه، كلا، ليس ذلك كله ضرورة حتمية من ضرورات الأدب الإسلامي؛ إن نطاقه بلا ريب أوسع آلاف المرات من المفاهيم الدينية، حتى وإنْ بدا لبعض المتحاملين أنه أدب أخلاق وفضيلة ووعظ مباشر. وأنه أبعد ما يكون عن حقيقة الأدب وحقيقة الفن، وعن الأبعاد الجمالية التي لا بدّ أن تتوافر في الأدب والفن.
إنّ مَن يعتقدون أنّ رواد الأدب الإسلامي اليوم منحصرون في بوتقة المفاهيم الدينية المباشرة في تعاطيهم للأدب من الناحية الفنية، واهمون وبعيدون عن الحقيقة وعن الموضوعية والعدالة؛ ولعل روايات الأديب الكبير الدكتور نجيب الكيلاني رحمه الله، خير شاهد يمكن أن يُقدّم في مدافعة تلك التحاملات المغرضة ودحضها من أساسها.
يقول الأستاذ المفكر الكبير محمد قطب رحمه الله مبيّناً التصور الصحيح للأدب الإسلامي من خلال فنّ محدد من فنون الأدب هو فنّ الشعر: ” الشعر الذي يتحدث عن جمال الطبيعة الفاتنة، الذي يتحدث عن القوة، الذي يتحدث عن انطلاق الطاقة البشرية للعمل والإنتاج، الذي يتحدث عن العواطف الإنسانية النظيفة، الذي يدفع ويحرك إلى الأمام، الذي يفتح الأمل أمام البشرية، الذي يُشعر الناس بجمال الحياة، وأنها جديرة بأن يحياها الإنسان، الذي يتحدث عن آلام البشر، الذي يدعو إلى إزالة المظالم، وإصلاح الفساد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الذي يصف الحياة كما ينبغي أن تكون.. كلّ ذلك شعر إسلامي لأنه تعبيرٌ عن الفطرة النظيفة، ولو لم يُذكر فيه مرة واحدة اسم الدين ولا مفاهيم الدين المباشرة..”(4).
ونخلص من هذا إلى أنّ الأدب الإسلامي أدبٌ موجّه يخاطب الفطرة البشرية كما يخاطب الضمير العفيف وأشواق الروح، ويشكّل بذلك كلّه تصوراً عاماً للحياة ولعلاقة الإنسان بهذه الحياة، وعلاقة البشرية كلها بعضها ببعض.
ولكنه في كلّ ذلك له أسلوبه الخاص وطريقته المتميزة في التناول والتقدير.. فهو باختصار انفعالات المشاعر النظيفة بمؤثراتها النفسية والروحية تجاه الطموحات الإنسانية المتقدمة، كلّ ذلك مع عناية خاصة بالأبعاد الفنية والصور الجمالية المتناغمة مع مضمون أخلاقي ذي طابع كوني أو إنساني عام.
فليس هناك ــ إذن ــ من قيود أو سدود ــ تَحُولُ دون انطلاقة المضمون في الأدب الإسلامي أو الفنون الإسلامية بصورة عامة. فالأدب الإسلامي بإمكانه تناول أيّ موضوع من موضوعات الحياة الإنسانية دونما تحديد أو تقييد.. لكن له منهجه الخاص في تناول كلّ موضوعاته، فهو لا ينظر إلى الظواهر مقطوعة عن سياقها الحضاري، ولا مبتوتة عن حقيقتها الكونية، ولا مبتورة عن خلفياتها النفسية والاجتماعية والاقتصادية(5)؛ وإنما هو منظور متناسق متكامل يستند إلى خلفية عقدية وحضارية كبرى هي مقاصد وكليات وتشوفات الوحي الكريم.
الأديب المسلم وعملية البناء
إنّ الأدب الإسلامي لا يمكن له أن ينطلق في عملية البناء الحضاري والتأسيس الاجتماعي إلاّ إذا كان الأديب المسلم واعياً ومدركاً لطبيعة وحدود دوره الحقيقي في هذه العملية، مع استيعاب شامل للواقع الذي يتحرّك فيه، وفقه متبصّر بطبيعة خلفيات الصّراع الفكري الذي تخوضه أمتنا مُرغمة بفعل العديد من العوامل التي لا يتسع المقام للحديث عنها في هذه المساحة من مقالنا.
إنّ الأديب المسلم لا يمكنه أن يقف بعيداً عما يجري، وإنما عليه أن يأخذ موقعه وأن يُسهم في حدود طاقته في عملية الإصلاح الاجتماعي والثقافي، كمعالجة السلبيات والظواهر المَرضية والتصدي لها بما يحقّق المصلحة العامة لمجتمعه وأمته والإنسانية كافة. ويمكن للأديب المسلم ممارسة الفعل الاجتماعي بمفهومه الواسع حتى يجعل من الأدب الإسلامي حقيقة واقعية ملموسة يحس بها الجميع.. ولا شكّ أنّ اتساع رقعة العمل الخيري يتيح إمكانية ممارسة هذا الفعل والارتقاء به إلى مستوى السلوك الحضاري الفاعل والمؤثر.
ومن جهة أخرى، ينبغي أيضاً الاهتمام بالأديب المسلم، لأننا حين نفعل ذلك نستطيع أن نسدي إليه النصح والتوجيه؛ ونذكّره بحق المجتمع عليه، بأن يعيش قضاياه، ويعبّر عن طموحاته وآمانيه، ويُرسي ــ قبل ذلك ـــ دعائم الحق والخير فيه، مع ريادة الآفاق المتنوعة المتكاملة التي تشيد بناءه الوجداني، مع نكران للذات وبُعد مبدئي عن التماس الأضواء والشهرة، واحتساب ذلك كله عبادة لله تعالى(6).
إنّ الأديب المسلم مطالب اليوم بأن يفقه معادلة التوفيق والتوازن بين الحق والواجب، وذلك طريقه الصحيح للوعي والالتزام والإنجاز. وهذا الطريق يبدو من الناحية النظرية واضح المنائر والمعالم.. لأنه الطريق والسبيل المؤدي إلى تحقيق الرضوان الأعلى في الآخرة، ونفع الإنسانية اليوم في هذه الحياة التي نعيش.
ومن جهة أخرة فإنّ المتبصّرين بهذه المجالات من النقاد وأصحاب الفكر والرأي عليهم واجب مقدس يُمليه عليهم ضميرُهم الديني وشعورُهم النظيف، ألا وهو واجب مؤازرة الأديب المسلم في إبلاغ رسالته، وتنويره بالأفكار والآراء والنصائح والمقترحات التي تساعده وتفتح أمامه آفاقاً رحبة وآماداً شاسعة، فيمضي في طريقه مطمئن السريرة موصول الخطى، متوقّد العزم؛ وبتلك الصورة التكاملية الرائعة تؤدى الرسالات الكبيرة وتتفوّق المهمات النبيلة الخيّرة وينتصر الحق والعدل والجمال.
نظرية الأدب الإسلامي
بقي أن نشير إلى أنّ الأدب الإسلامي قد تجاوز في هذه المرحلة المفاهيم والمصطلحات وبسط المنطلقات، ووصل إلى مرحلة ” النظرية “.. والنظرية الإسلامية في الأدب ترتكز على الالتزام القائم على الإيمان الرباني، والتصور الإسلامي الشامل للإنسان والكون والأشياء والمعرفة والحياة. وتحاول نظرية الأدب الإسلامي جاهدة أسلمة الأدب والنقد شكلاً ومضموناً، وذلك رغبة في تغيير الإنسان، وتوجيهه الوجهة السليمة الصحيحة التي تتمثل في التشبث بمقاصد الإسلام الكلية، وبناء حياة متوازنة منسجمة مع الفطرة، تجمع بين الجانب الدنيوي والجانب الأخروي.
وليست النظرية الإسلامية نظرية وجودية، ولا نظرية إباحية، ولا نظرية ماركسية شيوعية، وليست كذلك نظرية سريالية فوضوية بدون هدف ولا مبدأ، لأن الإسلامية في الأدب تعني كل أدب ينطلق من التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان، أو ـــ على الأقل ــ ينسجم مع هذا التصور ولا يعارضه أو يناقضه.
أما أبرز رواد نظرية الأدب الإسلامي فنذكر منهم:
– نجيب الكيلاني في كتابيه “الإسلامية والمذاهب الأدبية”، و”المدخل إلى الأدب الإسلامي”.
– محمد قطب في كتابه “منهج الفن الإسلامي”.
– عماد الدين خليل في كتابه “نظرية الأدب الإسلامي”، و”في النقد الإسلامي المعاصر”.
– عبدالباسط بدر في كتابه “مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي”.
– عدنان رضا النحوي في كتابه “الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته”.
– محمد أحمد حمدون في كتابه “نحو نظرية للأدب الإسلامي”.
___________
الهوامش
(1) سيد قطب في التاريخ فكرة ومنهاج، دار الشروق، بيروت، ص 11.
(2) سيد قطب، العدالة الاجتماعية في الإسلام، دار الشروق، بيروت، ص 284.
(3) نجيب الكيلاني، مدخل إلى الأدب الإسلامي، كتاب الأمة، الدوحة، ص 34.
(4) محمد قطب، معركة التقاليد، دار الشروق، بيروت، ص 134/ 135.
(5) محمد مراح، مقال “في الأدب الإسلامي” مجلة العالم، لندن، العدد 288.
(6) محمد عادل الهاشمي، في الأدب الإسلامي تجارب ومواقف، دار المنارة، بيروت، ص 33.
(*) باحث أكاديمي. والمقال منشور بموقع “المجتمع”.
[ica_orginalurl]