د. يوسف القرضاوي
الإسلام يمتاز بنزعته الإنسانية الواضحة الثابتة الأصيلة في معتقداته وعباداته، وتشريعاته وتوجيهاته.. إنه دين الإنسان.
بين الربانية والإنسانية
وربما خُيل لكثير من الناس -لأول وهلة- أن هناك تناقضا بين إثبات خصيصة “الربانية” وخصيصة “الإنسانية” في وقت واحد.
فالظاهر والمفهوم والمفترض في أذهانهم أن ثبوت إحدى الخصيصتين ينفي الأخرى ويطردها، شأن كل متضادين لا يجتمعان، فإذا وجد الله لم يبق مكان للإنسان!
وإذا كنا قد قلنا في خصيصة “الربانية”: إنها تعني -من ناحية- ربانية الغاية والوجهة، على معنى أن حسن الصلة بالله تعالى وابتغاء مرضاته هو غاية الإنسان وهدف الإسلام.
كما تعني -من ناحية أخرى- ربانية المصدر والمنهج، على معنى أن الإسلام منهج إلهي، صاحبه وشارعه هو الله وحده، وإنما الرسول مبلغ عنه؛ فمعنى هذا أن لا موضع للإنسان.
وأين يكون مكان الإنسان ما دام الله هو الغاية، ومرضاته هي الهدف والوجهة، وما دام الله أيضا هو واضع المنهج إلى تلك الغاية؟
ليس الإنسان ندا لله
على أن الخطأ الأول والأساسي في موقف هؤلاء النظر إلى الله والإنسان كأنهما ندان متقابلان، وهؤلاء ينسون ما هو الله؟ وما هو الإنسان؟!
والحقيقة التي لا ريب فيها أن الله هو صاحب هذا الكون، وربه، ومدبره: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} (الأنعام: 164).
والإنسان هو مخلوق حادث من مخلوقات الله جل شأنه، ولا يتصور أن يكون المخلوق ندا للخالق، ولا الحادث مضاهيا للأزلي، ولا الفاني كفوا للأبدي الباقي: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (سورة الإخلاص).
إن الإنسان مخلوق لله، ولكنه مخلوق ذو مكانة خاصة، وله شأن ودور في هذا الوجود، والذي منحه هذه المكانة، وجعل له هذا الشأن والدور هو خالقه ذاته، هو الله تبارك وتعالى.
لننظر للإنسان إذن على هذا الأساس. وبهذا المنظار.
إنه مخلوق، ولكنه أكرم المخلوقات على الله تعالى، وهو الوحيد من بينها.
لا تنافي بين الربانية والإنسانية
إذا عرفنا ما ذكرناه من حقائق اتضح لنا:
أن الإسلام -مع ربانيته في غايته ووجهته- هو إنساني أيضا في الغاية والوجهة، ومن هنا نقول: إن للإنسان مكانا، أي مكان في غايات الإسلام العليا، وأهداف الكبرى، مع تقرير غايته الربانية، وإبرازها وتثبيتها؛ إذ لا تنافي بين الغاية الربانية، والغاية الإنسانية، بل هما متكاملتان.
أجل، لا تنافي -في نظر الإسلام- بين الربانية والإنسانية، فتقدير إنسانية الإنسان هو من الربانية التي قام عليها الإسلام.
فالله هو الذي كرم هذا الإنسان، ونفخ فيه من روحه، وجعله في الأرض خليفة، وسخر له ما في الموات، وما في الأرض جميعا منه، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
وإذا كان مصدر الإسلام “ربانيا”، فإن “الإنسان” هو الذي يفهم هذا المصدر، ويستنبط منه، ويجتهد على ضوئه، ويحوله إلى واقع تطبيقي ملموس.
وإذا كانت الربانية هي غاية المجتمع المسلم كما هي غاية الفرد المسلم، فإن مضمون هذه الغاية هو سعادة الإنسان، وفوزه بالنعيم المقيم في جوار رب العالمين.
وإذا كانت الربانية هي رسالة المسلم، فإن أهداف هذه الرسالة هي تحقيق الخير للإنسان والسمو به، والحيلولة بينه وبين الانحراف والسقوط.
والمعاني الربانية التي توجه المسلم، من الإيمان والتوحيد والإنابة والرجاء والخوف.. الخ، هي في حقيقتها معان إنسانية، لأنها جزء من كيان الإنسان كما فطره الله، وهي سر من أسرار قوله تعالى: { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} (الحجر: 29).
وفكرة الإسلام: أن الإنسان لا يستطيع أن يكون ربانيا حقا، دون أن يكون إنسانيا، كما لا يستطيع أن يكون إنسانيا حقا، دون أن يكون ربانيا.
إن الربانية -باعتبارها غاية ووجهة- تقتضي إخلاص النية والعمل والوجهة لله وحده، وجعل رضوانه ومثوبته نهاية المقصد، وغاية السعي وراء كل حركة، وكل قول أو عمل.
ولكن المقصود بهذا كله هو تحرير الإنسان، وإسعاد الإنسان، وتكريم الإنسان، وحماية الإنسان، والسمو بالإنسان.
فهذه كلها أهداف وغايات يحرص الإسلام عليها، ويسعى إليها، ويعمل بكل وسيلة على بلوغها والاجتهاد في تحقيقها.
القرآن.. كتاب الإنسان
وإذا نظرنا إلى المصدر الأول للإسلام وهو القرآن كتاب الله، وتدبرنا آياته، وتأملنا موضوعاته واهتماماته.. نستطيع أن نصفه بأنه كتاب الإنسان. فالقرآن كله إما حديث إلى الإنسان، أو حديث عن الإنسان.
إن كلمة “الإنسان” تكررت في القرآن (63) ثلاثا وستين مرة، فضلا عن ذكره بألفاظ أخرى مثل “بني آدم” التي ذكرت ست مرات، وكلمة “الناس” التي تكررت (240) مئتين وأربعين مرة في مكي القرآن ومدنية.
ولعل من أبرز الدلائل على ذلك أن أول ما نزل من آيات القرآن على رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم خمس آيات من سورة العلق ذكرت كلمة “الإنسان” في اثنتين منها، ومضمونها كلها العناية بأمر الإنسان.
هذه الآيات هي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1-5).
محمد.. الرسول الإنسان
وإذا نظرنا إلى الشخص الذي جسد الله فيه الإسلام، وجعله مثالا حيا لتعاليمه، وكان خلقه القرآن، نستطيع أن نصفه بأنه “الرسول الإنسان”، وسيرته ليست سيرة إله، ولا بعض إله، ولا ملاك متجرد من اللحم والدم، بل هي سيرة النبي الإنسان.
والقرآن الكريم حريص كل الحرص في شتى المناسبات على تأكيد إنسانية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، بمثل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}.
الجانب الإنساني في رسالة الإسلام
إن كل دارس للإسلام في كتابه وسنة رسوله.. يتبين له بجلاء أنه وجه عناية بالغة إلى “الجانب الإنساني”، وأعطاه مساحة رحبة من رقعة تعاليمه، وتوجيهاته، وتشريعاته.
وإذا نظرت في الفقه الإسلامي وجدت “العبادات”، لا تأخذ إلا نحو الربع أو الثلث من مجموعه، والباقي يتعلق بأحوال الإنسان من أحوال شخصية، ومعاملات، وجنايات، وعقوبات، وغيرها.
على أنك إذا تأملت العبادات الكبرى نفسها، وجدت إحداها “إنسانية” في جوهرها، وهي عبادة “الزكاة” فهي تؤخذ من الإنسان الغني، لترد على الإنسان الفقير، هي للأول تزكية وتطهير، وللثاني إغناء وتحرير.
والعبادات الأخرى لا تخلو من جانب إنساني تلمحه في ثناياها.
فالصلاة عون للإنسان في معركة الحياة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} (البقرة: 153).
والصوم تربية لإرادة الإنسان على الصبر في مواجهة المصاعب، وتربية لمشاعره على الإحساس بآلام غيره، فيسعى إلى مواساته. ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم شهر رمضان “شهر الصبر” و”شهر المواساة”.
والحج مؤتمر رباني إنساني، دعا الله فيه عباده المؤمنين: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} (الحج: 28)، فشهود المنافع هنا يمثل الجانب الإنساني في أهداف الحج.
وفوق ذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم يرفع إلى درجة العبادة كل عمل يؤديه المسلم، يترتب عليه نفع مادي لإنسان، أو سرور نفسي لإنسان.
من ثمرات الإنسانية في الإسلام
الإخاء والمساواة والحرية: هذه النزعة الإنسانية الأصيلة في الإسلام هي أساس هام لمبدأ الإخاء البشري الذي نادى به الإسلام، وهي أساس هام كذلك لمبدأ المساواة الإنسانية العام الذي دعا إليه الإسلام.
وهي أساس هام كذلك لمبدأ الحرية الذي قرره الإسلام، أكد الإسلام الدعوة إلى هذه المبادئ الإنسانية الثلاثة، ووضع الصور العملية لتطبيقها، وربطها بعقائده وشعائره وآدابه ربطا محكما، بحيث لا تظل مجرد أمنية شاعرية تهفو إليها بعض النفوس، أو فكرة مثالية تتخيلها بعض الرؤوس، أو حبر على ورق سطرته بعض الأقلام.
وأكتفي هنا بالحديث عن مبدأ المساواة باعتباره ملازما للإخاء، وثمرة له.
مبدأ المساواة الإنسانية
أما مبدأ المساواة الإنسانية الذي قرره الإسلام ونادى به، فأساسه أن الإسلام يحترم الإنسان ويكرمه من حيث هو إنسان؛ لا من أي حيثية أخرى، الإنسان من أي سلالة كان، ومن أي لون كان، من غير تفرقة بين عنصر وعنصر، وبين قوم وقوم، وبين لون ولون، مسقطا كل أنواع التفرقة القبلية والعنصرية والقومية واللونية. يقول القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13).
قد يختلف الناس في أجناسهم وعناصرهم؛ فيكون منهم الآري، والسامي، والحامي، والعربي، والعجمي.
وقد يختلفون في أنسابهم وأحسابهم فيكون منهم من ينتهي إلى أسرة عريقة في المجد، ومن ينتهي إلى أسرة صغيرة مغمورة في الناس.
وقد يتفاوت الناس في ثرواتهم فيكون منهم الغني، ومنهم الفقير، ومنهم المتوسط الحال.
وقد يتفاوتون في أعمالهم ومناصبهم، فيكون منهم الحاكم والمحكوم، ويكون منهم المهندس الكبير، والعامل الصغير، ويكون منهم أستاذ الجامعة والحارس ببابها.
ولكن هذا الاختلاف أو التفاوت لا يجعل لواحد منهم قيمة إنسانية أكبر من قيمة الآخر، بسبب جنسه، أو لونه، أو حسبه، أو ثروته، أو عمله، أو طبقته، أو أي اعتبار آخر.
إن القيمة الإنسانية واحدة للجميع. فالعربي إنسان، والعجمي إنسان، والأبيض إنسان، والأسود إنسان، والحاكم إنسان، والمحكوم إنسان، والغني إنسان، والفقير إنسان، ورب العمل إنسان، والعامل إنسان، والرجل إنسان، والمرأة إنسان، والحر إنسان، والعبد إنسان، ومادام لكل إنسانا فهم إذن سواسية كأسنان المشط الواحد.
ومن هنا اعتبر الإسلام الاعتداء على نفس أي إنسان اعتداء على الإنسانية كلها، كما جعل إنقاذ أي نفس إنقاذا للجميع، هذا ما قرره القرآن بوضوح: {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة: 32).
شعائر الإسلام تثبت معنى المواساة
ولم يكتف الإسلام بتقرير مبدأ المساواة نظريا، وتثبيته فكريا، بل أكده عمليا بجملة أحكام وتعاليم نقلته من فكرة مجردة إلى واقع ملموس. من ذلك العبادات الشعائرية التي فرضها الإسلام، وجعلها الأركان العملية التي يقوم عليها بناؤه العظيم من الصلاة والزكاة والصيام والحج.
المساواة أمام قانون الإسلام
ومن المساواة العملية التي قررها الإسلام قولا، وطبقها فعلا: المساواة أمام قانون الشرع وأحكام الإسلام.
فالحلال حلال للجميع، والحرام حرام على الجميع، والفرائض ملزمة للجميع، والعقوبات مفروضة على الجميع.
حاولت إحدى القبائل عند الدخول في الإسلام أن تعفى من الصلاة حينا من الزمن، فأبى عليها ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: “لا خير في دين لا صلاة فيه”.
وحاول الصحابة أن يشفِّعوا أسامة بن زيد -حب رسول الله وابن حبه- في امرأة من قريش، ومن بني مخزوم، سرقت فاستحقت أن يقام عليها حد السرقة (قطع اليد)، فكلمه فيها أسامة، فغضب صلى الله عليه وسلم غضبته التاريخية المعروفة، وقال كلمته التي خلدها التاريخ: “إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها”.
وفي عهود الخلفاء الراشدين رأينا كثيرا من الصور والأمثلة لتطبيق مبدأ المساواة بين جميع الناس، دون تفريق أو تمييز. وحسبنا أن نشير هنا إلى قصة جبلة بن الأيهم -الأمير الغساني- مع الأعرابي الذي شكا إلى عمر أمير المؤمنين كيف لطمه جبلة بغير حق، فلم يسع عمر إلا أن يحضر جبلة، ويطلب إليه أن يمكن الأعرابي ليقتص منه، لطمة بلطمة، إلا أن يعفو عنه ويصفح، وعز على الأمير الغساني أن يفعل ذلك، وقال لعمر بصراحة: كيف يقتص مني وأنا ملك وهو سوقة؟
فقال عمر: إن الإسلام قد سوى بينكما.
ولم يع الأمير المسكين هذا المعنى الكبير، وخرج من المدينة هاربا مرتدا عن الإسلام الذي يفرض المساواة بين الملك والسوقة أمام شرع الله، وغلبت عليه شقوته؛ فكان من الخاسرين.
ولم يبال عمر ولا الصحابة معه بهذه النتيجة؛ لأن ارتداد رجل عن الإسلام أهون بكثير من التهاون في تطبيق مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام، كالمساواة. وخسارة فرد لا تقاس بخسارة مبدأ.
* المصدر: كتاب “مدخل لمعرفة الإسلام” للدكتور القرضاوي.
[ica_orginalurl]