خالد رُوشه
إن أكثر ما يؤلم المرء هو منظر المتخاصمين، ويزيد الألم أضعافا حينما يكونون في صف الدعاة إلى الله ..
وأكثر ما يجرح القلب هو التقاطع والتدابر الحاصل بين المسلمين في كل قطر وكل مدينة، ويزيد القلب جراحا إذا كان في صف الذين يعدهم الناس دعاة إلى الله!!
لقد بلغ الخلاف ببعض الدعاة أن سُلطوا على بعضهم فانتقد بعضهم بعضا حتى جرحه في خصوصياته، واستغل أصحاب نوايا السوء خلافهم، وراحوا يستفتون بعضهم في بعض، ويستكتبون بعضهم ضد بعض حتى تلاشت الثقة بينهم، ونشبت معارك معلنة وخفية، وجرأوا السفهاء عليهم وأغروا بهم أعداء الإسلام ..
ثم هانحن نجد من الشباب من قد انخرط في عشرات الجماعات التي تتكاثر يوما بعد يوم؛ فيكفِّرون ويبدِّعون غيرهم؛ بل وصل حالهم إلى أن بدعوا وكفروا دعاة وعلماء قد نذروا حياتهم كلها للدعوة إلى الله ولهم تاريخ ناصع البياض في العمل الإسلامي، ولو قرأت كلام هؤلاء الشباب في أولئك الدعاة والعلماء المختلفين معهم لظننت أنهم يتحدثون عن أعداء الديانة وأتباع الشياطين !.
إن الأوامر الشرعية في كتاب الله سبحانه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لتدعونا في كل وقت وحين إلى الاعتصام ولم الشمل وإصلاح ذات البين ونبذ الخلافات والتعاون على البر والتقوى والتأدب مع الدعاة والعلماء .
يقول الله سبحانه: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}، قال البغوي في تفسيرها: “أي: اتقوا الله بطاعته، وأصلحوا الحال بينكم بترك المنازعة والمخالفة، أصلحوا ما بينكم وبين إخوانكم، فما يكون لديكم تقاطع، ولا تدابر ولا بغضاء، ولا شحناء، ولا خصومات”..
وذات البين هي النفس التي بين جنبيك، وإصلاحها تنقيتها من شوائبها وأمراضها؛ لأن سبب النزاعات والخصومات هي تلك النفس وأمراضها من حب الذات والأثرة والعجب والكبر وحب الرفعة أمام الناس وحب العلو في الدنيا وغيرها .. فكأن الآية في مضمونها توجه نحو إصلاح النفس من أمراضها وما يترتب على ذلك من إصلاح بين النفوس جميعا ..
قال البيهقي: قال ابن المبارك: كتب ميمون بن مهران إلى يونس بن عبيد أني أحب أن تكتب إلى بما أنت عليه لأكون عليه، فكتب إليه يونس إني جهدت بنفسي أن تحب للناس ما تحب لها (نفسه)، وتكره لهم ما تكره لها، فإذا هي من ذلك بعيدة، وإذا الصوم في اليوم الحار الشديد حره أيسر عليها من ترك ذكر الناس، قال الحليمي: ولا ينبغي لمسلم أن يتمني بقلبه لأخيه من الشر ما يكره لنفسه أو يكره له من الخير ما يتمناه ويحيه لنفسه وإذا عرضت بجماعة المسلمين بليه فلا ينبغي لأحد منهم أن يتسبب إلى الخلاص بإيلام الأخرين والإغراء بهم بل ينظر إليهم كما ينظر لنفسه، فإن عجز نظر لنفسه من حيث لا يضرهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكي عضو منه تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي .
وأخرج البيهقي في الشعب عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لامرئ مسلم أن ينظر في بيت رجل إلا بإذنه وإن نظر فقد دخل ولا يؤم قوما فيخص نفسه بدعاء دونهم فمن فعل فقد خانهم.
ولاشك أن الخلاف فيما يسوغ فيه الخلاف بين الناس –ومنهم الدعاة والعلماء– أمر طبيعي، يعتمد على رؤية كل أحد ونظرته للأمور، إلا أن القضية الفجة التي نتحدث فيها لا تتعلق بمجرد خلاف نظيف طاهر بل قد تعدت ذلك إلى أنواع من الأثرة والتعصب واللامبالاة بمصالح الأمة، ولا أبالغ إذا قلت أنها قد تعدت في بعض الأحيان ذلك إلى إهمال الأوامر الشرعية الصريحة والقاطعة بحجج واهية هي في ذاتها عبارة عن مصالح ذاتية لفرد أو جماعة، لقد روى البخاري في كتاب المناقب عن أبي هريرة رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ” أخرجه البخاري، أما يكفي المتخاصمين مثل هذا الحديث ؟! إني أظن أن القلوب لو طهرت وتلقت توجيهات نبيها وآيات ربها بشفافية ونقاء لانتهت _ بمثل هذا الحديث وغيره من الأحاديث الكثيرة _ عما تفعل .
***
ومن أعجب ما رأيت أن تكون هناك قطيعة بين بعض الدعاة وبعض بسبب هفوة أو زلة أو كلمة أو سلوك ما قد يكون خاطئا أو حتى في بعض الأحيان قد يكون عفويا، وليست هذه وحدها هي المصيبة وإنما المصيبة أن يكون كل واحد من هؤلاء الدعاة له أتباع يأتمرون بأمره ويغضبون لغضبه ويرضون برضاه، فترى الأمور قد تفاقمت وترى الخصومات قد صارت بين جماعات من المؤمنين !
عن البراء بن عازب قال يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته (أخرجه أبو داود والترمذي).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما إذا أحدهما يستوضع الأخر ويسترفقه في شيء وهو يقول والله لا أفعل فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أين المتألّي على الله لا يفعل المعروف فقال: أنا يا رسول الله فله أيّ ذلك أحب . (أي استجابة للنبي صلى الله عليه وسلم) متفق عليه .
قال البيهقي: سمعت أبا عبد الرحمن السلافي يقول: المؤمن يطلب معاذير إخوانه والمنافق يطلب عثرات إخوانه . وقال البيهقي: إذا زل أخ من إخوانكم فاطلبوا له سبعين عذرا فإن لم تقبل قلوبكم فاعلموا أن المعيب أنفسكم وقال ذو النون: تناسوا مساوئ الإخوان يدم لكم ودهم، ولا تثقن بمودة من لا يحبك إلا معصوما ..
وبعض المتخاصمين يريد أن يصلح لكنه عاجز عن الفعل كسول عن الإنجاز، وهذا كثير معروف، والحق أنه بعجزه وكسله أشبه بالراضي بالخصومة والخلاف، لأنه لو كان صادقا لقام وصالح وزار واعتذر وبدأ بالخطوة الأولى والثانية والثالثة، حتى لو أغلظ له الآخر القول وحتى لو طرده أو سخر منه، لأنه إنما يعمل ذلك لله سبحانه لا للناس.. فتدبر ذلك.
وبعضهم يريد الإصلاح لكنه محاط بدائرة سوء وأصحاب شر يعظمون نفسه إليه ويكبرون قدره عنده وينقلون له مساوئ الآخرين ويسعون بالنميمة بينه وبين إخوانه الدعاة، فيظلون به حتى يهوى في قاع سافل من الكبر والتعصب ..فبئست صحبة السوء تلك حتى لو كانوا يتزيون بزي طلاب العلوم !
فعن أم كلثوم بنت عتبه قالت سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا” (متفق عليه).
يقول الإمام أحمد بن حنبل: “لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً”، ويقول: ويقول: “ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق وهو أرحم الراحمين فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة” (سير أعلام النبلاء).
وقد يكون سبب القطيعة والخصومة بين بعض المجموعات اجتهادات مختلفة أو أقوال متبعة، فيتعصب كل أحد لقوله ويسفه رأي الآخر ويبدو الأمر كأن القوم قد فقدوا عقولهم وفقدوا معها كل ما تعلموه من آداب الخلاف وقواعده التي باتوا يتعلمونها سنين طوال حتى شابت مفارقهم !!
يقول سفيان: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه. وقال: ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً عنه من إخواني أن يأخذ به (الفقيه والمتفقه).
ويقول أحمد: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم، قال ابن مفلح: لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ منه خلاف في الفروع (الآداب الشرعية).
وقال النووي: “ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً” (شرح مسلم).
ويقول شيخ الإسلام: “مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه” (مجموع الفتاوى).
ودعونا نتساءل: ماذا يفيد المسلمين من أكل بعضنا لحم بعض؟ وهجوم بعضنا على بعض؟ وخصومة بعضنا بعضا؟ وماذا تستفيد الدعوة من ذلك؟ إن هذا التناحر والتفرق لا يخدم الإسلام ولا المسلمين في شيء؛ بل إنه يفيد أعداء الأمة الذين يتخذون المتخاصمين عصيا يضربون بها العاملين لله ..
جانب آخر مهم وهو تلك السلبية التي اتصف بها البعض في مواقف النزاع والخلاف وأصبح موقف العديد من الأفراد سلبيا يقتصر على مجرد الاستماع إلى وقائع النزاعات لنقل الأخبار والتفرج على قصص الناس دون القيام بأية خطوة إيجابية لمحاولة الإصلاح, وهذا قد يرجع إلى الغفلة واللامبالاة بشؤون الصالح العام لأمتنا وتناقص حس خدمة القضايا العامة على حساب الراحة الشخصية .
إن ما نسمعه اليوم من تهكم بعض الدعاة على بعض وسخريتهم من بعض على رؤوس المنابر وفي دروس العلم وعلى شاشات الفضائيات لا ينتمي بحال لأدب هذا الدين العظيم، وإنما الواجب على هؤلاء أن يبينوا الصواب الذي يرونه وينتقدوا الخطأ عند الآخر بأدب ووقار وأسلوب علمي رصين ويدعون غيرهم لاتباعه بخلق حضاري نظيف، فإن كل داعية مسلم لن يخلو من خير ونفع لأمته .
***
إننا بحاجة ملحة إلى وسطاء علماء عقلاء حكماء عادلين يقومون بدور الوساطة بين المختلفين والمتخاصمين من الدعاة في كل مكان على حدة، وأن يتولى ذلك في كل مكان أناس على درجة عالية من الفهم والحكمة، يعتمدون لغة الحوار والإقناع والتعقل مدعومة بلغة العلم والفقه والدليل، يكون هدفهم رأب الصدع وتصفية النفوس بين الدعاة والعلماء، وأرى أن يدور عملهم حول عدة محاور هامة للقضية:
أولا: نشر ثقافة الاعتصام بحبل الله ووحدة الصف والتعاون على البر والتقوى وأدب الخلاف وفقه الخلاف وقواعده.
ثانيا: التبصير بمكائد أعداء الأمة ومرادهم من نشر الخلاف بين العاملين لله .
ثالثا: إقناع المختلفين إلى أن يدور خلافهم في حدود العلم والمادة العلمية بأصولها وألا يتعدى ذلك إلى التثوير واتباع الهوى ورغبات النفس، ويمكنهم بيان أقوالهم وآرائهم في كتابات علمية رصينة بدلا من أن تكون على المنابر وفي دروس المساجد، فيغروا بذلك بعض السفهاء من أتباعهم وتتضخم الأمور إلى مالا يحمد عقباه .
رابعا: العمل على بناء جدر الثقة بين الدعاة والعلماء بعضهم بعضا وإعادة روح المحبة والألفة .
خامسا: دفعهم للعمل على وقوفهم وحدة واحدة أمام تيارات التعصب والجهل وأفكار التكفير والإفساد في مجتمعاتنا الإسلامية، وجعلهم جميعا مرجعية قوية لأهل السنة يدعون إلى الإصلاح والهدى والبناء والإنجاز والفلاح كما أمرتهم آيات الله وسنن نبيه صلى الله عليه وسلم .
سادسا: العمل على عقد ميثاق شرف بين الدعاة والعلماء بعضهم بعضا يعملون في حدوده ويلتزمون بمواثيقه المستمدة من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأرجو أن تجد تلك الدعوة صدى عند العلماء والدعاة في كل صقع من أصقاع أمتنا الإسلامية العزيزة وأن يحمل تلك الدعوة من كل مكان أهلوه العالمون العادلون الحكماء فيسلموننا إلى بر السلامة ..
وهاكم آيات الله وأحاديث نبيه التي تدعونا للقيام بهذه المهمة، مهمة الإصلاح بين الناس، أضع جانبا منها بين أيديكم لتكون دافعا لكل الهداة المهديين ..
قال سبحانه: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة…” متفق عليه.
و عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ ” (البخاري).
وعن سهل الساعدي رضي الله عنه: “أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغه أن بني عمر بن عوف كان بينهم شر، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم في أناس” (متفق عليه).
وأخرج مسلم والبخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربه فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة وأخرج مسلم أيضا عن أبي هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أخو المؤمن لا يخذله ولا يظلمه لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه .
وأخرج البخاري عن أبي هريرة أيضا فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا .
وقال صلى الله عليه وسلم (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة ” أي درجة الصيام النافلة وصدقة نافلة والصلاة النافلة “، فقال أبو الدرداء: قلنا بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين)أخرجه أبو داود
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار على أن يعقلوا معاقلهم، وأن يفدوا عانيهم (أسيرهم) بالمعروف والإصلاح بين المسلمين” [رواه أحمد].
وقال صلى الله عليه وسلم: “ما عمل ابن آدم شيئاً أفضل من الصلاة، وصلاح ذات البين، وخلقِ حسن” (الصحيحة).
قال أنس رضي الله عنه: “من أصلح بين اثنين أعطـاه الله بكل كلمة عتق رقبة” (شعب الإيمان).
وقال الأوزاعي: ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة من إصلاح ذات البين ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار ..
قال ابن القيم رحمه الله: “فالصلح الجائز بين المسلمين يعتمد فيه رضي الله سبحانه ورضي الخصمين، فهذا أعدل الصلح وأحقه، وهو يعتمد العلم والعدل، فيكون المصلح عالما بالوقائع، عارفا بالواجب، قاصدا العدل، فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم ” (أعلام الموقعين).
المصدر: موقع المسلم.
[ica_orginalurl]