نزيه مطرجي
إننا في زمان يفيضُ فيه الخطّاؤون فَيْضاً، ويَغيض فيه الناصحون غيْضاً، وكلما تكاثر أهل الوزر والخطيئة، تضاءل أهل الوعظ والنصيحة.
إن النصيحة خُلُق كريم من أخلاق القرآن، وقَبَس مضيء من هدي الإسلام، ومن كانت هذه وظيفته كان من أنفع أهل الإيمان، وأكثرهم حِلماً وصبراً، وأعظمهم ثواباً وأجراً.
إن من سجايا أصحاب الفِطرَ السَّليمة أنهم يحبون الخير لأنفسهم ولإخوانهم فتدفعهم نَزْعة الخير إلى النّصح والتوجيه، ليسودَ الفضل ويعُمّ التعاون على البرّ، وهذه النّزعة ليست رغبة ذاتيّة، ومَلكة فطريّة وحسب، بَل هي واجب شرعي أَلحّت على لزومه آيات القرآن والسنّة النبوية، وجعلته أمانة عظيمة، ملازمة لأتباع الأمة كالطَّوْق للأعناق، والسَّعْي للأرزاق.
يتبيّن الأمر النبوي في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الدينُ النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامّتهم» أخرجه مسلم. وورد في الصحيح عن جابر بن عبدالله قوله: «بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم» متفق عليه، فكأن النصيحة كانت رُكناً من أركان البيعة التي يؤديها المسلم حين يؤدي العهد للرسول صلى الله عليه وسلم. وحسبُ النصيحة عُلُواً وشَرَفاً أنها صفة من صفات الأنبياء عليهم السلام.
ولكن طعم النصح عند العامة كالصَّبر والعَلقم، مُرٌّ مذاقهُ، لكن عواقبه أَحْلى من العسل! لذلك فإن أهل العامة من المسلمين والكثير من خاصّتهم يضيقون ذَرْعاً بالناصحين، فلا يُوادّونهم بل يُجافونهم، وينفرون منهم، لأن مضامين النصائح لا تصبّ في صالح أهوائهم ورغباتهم، وإذا كان الذين تُوجَّه إليهم النصيحة من أهل الفساد فإن استماعهم إلى النصائح أشقُّ عليهم من خَرْطِ القَتاد!.
إن نجاح النصح له شرطان: أن يأتي النُّصح من ناصح أمين، وأن يفتح المستمع قلبه للحقّ المبين.
ولا بدّ من الحذَر من خطر أهل الشرّ من البشر الذين يَبْغون الفسادَ في الأرض، فيلبسون ثياب الناصحين، ويتزيّون بزيّ الغَيرة والمودّة فيدسّون السُّمّ في الدَّسَم، وهم لا يريدون في نصحهم سوى الإغْواء والتفريق بين الأَحبّاء. ومن الأمثلة على أن الناصح قد يكون مخادعاً سيّءَ النيّة، فاسدَ الطويّة، ما قاله أبناء يعقوب عليه السلام لأبيهم في شأن أخيهم يوسف: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (يوسف: 11-12).
إن أداء النصيحة بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالكلام الليّن الواعظ هو خير وأفضل من أدائها بالغِلظة والفَظاظة، وبالعبارات المنفّرة، والله تعالى يقول لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه 43-44).
ولكن هذا اللين لا يتعارض مع الجُرأة في قول كلمة الحق، والصراحة في الوعظ، وهذا اللّين واللطف لم يمنعا رجلاً من عامة المسلمين أن يقول لعمر ذات يوم: اتق الله يا عمر! فكان جواب الخليفة المُهاب: «لا خيرَ فيكم إن لم تقولوها ولا خيرَ فينا إن لم نسمعها!».
قال سفيان الثوري للخليفة المنصور عندما علم أنه أنفق مالاً كثيراً في حَجِّه مع حاشيته: «رُبَّ متخوِّضٍ في مال الله له النار غداً!»، فقال أحد متزلّفي الحاشية: أمير المؤمنين يُسْتقبل بهذا؟ فأجابه سفيان: «اسْكُت فإنما أهلكَ فرعون هامان، وهامان فرعون!».
ألا إنّ أحبَّ عباد الله إلى الله الذين يُحَبِّبون الله إلى عباده، ويُحَبّبون عباد الله إلى الله، ويَسْعَون في الأرض بالنَّصيحة.
——————-
المصدر: مجلة “الأمان” اللبنانية.
[ica_orginalurl]