تفيد الشكوى أن قائد المسلمين الذي قام بفتح بلادهم لم يحترم قواعد الفتوحات الإسلامية التي خَبِروها، والتي سمعوا عن تطبيقها في غير بلدهم.. وهم يطلبون حكما عادلا فيما قام به هذا القائد!!!
(مقتطف من المقال)
فريق التحرير
كثيرا ما استمعنا إلى شبهة أن تاريخ الفتوحات الإسلامية تاريخ أسود ملطخ بدماء الأبرياء.. وأن دخول الإسلام إلى العديد من الدول صاحَبَه انتهاك لحقوق أبنائها ومواطنيها وقمع للحريات فيها؟!
وكغيري كنا نقدم ردودا ربما كانت تشير إلى خصال قادة المسلمين وصلاح الجُند ونزاهة المعارك أكثر من تقديمها صورا واقعية عن أشكال تلك الفتوحات، وتفاصيلها الدقيقة، وآثار تلك الصور على نفوس مواطني هذه البلدان.
وفي كتب التاريخ والآثار، وحكايات العباد والأمصار يجد المتصفح العجب العجاب.. ويقف مشدودا مبهورا بقصص لا يمكن إلا وأن تثير الفخر والاعتزاز بدين وشريعة جعلت الرحمة والعدل والتسامح شعارات تقف على نفس الجانب مع شعارات القوة والجَلَد والاستبسال في أرض المعركة.
من قصص الفتوحات الإسلامية لبلاد ما وراء النهر…
إنها قصة فتح سمرقند[1].. وقبل أن أسرد تلك القصة العجيبة على أن أوضح أن الفتوحات الإسلامية كانت تتم وفق قواعد واضحة وحاسمة.. لا يجوز التلاعب فيها أو الزيغ عنها.. وتلك القواعد كانت تنص على أن يُخيَّر أهل البلد بين خيارات ثلاثة.. أولها: الإسلام.. ثانيها: احتفاظ أهل البلد بدينهم ودفع الجزية[2] في مقابل تأمين الدولة الإسلامية وحمايتها لهم.. ثالثها: إمهالهم ثلاثة أيام فإما التسليم أو اقتحام البلدة.. كانت تلك هي القواعد التي لا يمكن لقائد مسلم مهما بلغت مكانته أن يخالفها.
نعود إلى القصة وإلى القائد المسلم (قتيبة بن مسلم الباهلي) والتي فتحت على يديه سمرقند[3] في عام ثلاثة وتسعين للهجرة[4] وانتهى الأمر!!!
هل هذه هي القصة؟.. ما العجيب إذا؟!
ليست تلك هي القصة.. فما يبدوا لا يزيد عن كون الأمر حدثا تاريخيا عابرا يؤرخ لأحد الفتوحات الإسلامية لإحدى بلاد ما وراء النهر.. لكن القصة الحقيقية هي ما سنسردها الآن..
في عام تسعة وتسعين للهجرة تولى الخليفة عمر بن عبد العزيز خلافة المسلمين، وعُرف عنه العدل والورع حتى لقب بخامس الخلفاء الراشدين.. ولمّا علم كهنة سمرقند بتولي عمر بن عبد العزيز مقاليد الحكم، ولِمَا عرفوا عنه ما ذكرناه من صفات قرروا أن يرفعوا إليه شكوى!
تفيد الشكوى أن قائد المسلمين الذي قام بفتح بلادهم لم يحترم قواعد الفتوحات الإسلامية التي خَبِروها، والتي سمعوا عن تطبيقها في غير بلدهم.. وهم يطلبون حكما عادلا فيما قام به هذا القائد!!!
إذا الفتح قد تم، وسمرقند الآن تحت الحكم الإسلامي بالفعل.. ما الذي يمكن أن تغيره الشكوى؟.. وهل سيلتفت لها الخليفة من الأساس؟ هذا ما ستكشف عنه الأحداث…
حدثت المفاجأة بالفعل.. إذ قَبِل الخليفة سماع الشكوى وطلب برفع الأمر إلى عامله على بلاد ما وراء النهر آنذاك/ سليمان بن أبي السري.. ليطلب منه بدوره إحالة الأمر للقضاء!!
خطوة أصابت الكهنة وأهل سمرقند بدهشة وحيرة في نفس الوقت.. دهشة من قبول الاستماع لتلك القضية من الأساس وحيرة من الخطوة المقبلة.
انعقدت المحكمة برعاية القاضي/ جُميع بن حاضر.. واستمع إلى الشكوى المقدمة من أهل سمرقند.. وطلب الاستماع إلى رد المُدَّعى عليهم (قادة المسلمين هناك).. وكان الجواب أن دعوى أهل سمرقند صحيحة؛ فالحرب خدعة وقد دخلنا سمرقند بدون تطبيق قواعد وشروط الفتوحات المتعارف عليها.
وهنا كانت المفاجأة المدوية.. انتهت المحاكمة وأعلن القاضي حكم الشرع فيما حدث: أمر القاضي بإخراج عرب سمرقند منها –كل عربها من حاكم وقادة وجنود ورجال ونساء وأطفال- وإعادتهم إلى معسكرهم قبل الفتح.. وإعادة الكرّة لكن بشروط وقواعد الفتوحات بلا تلاعب ولا خُدع.. فإما التصالح وإما الفتح الإسلامي برايته البيضاء القويمة!!!
محكمة هي الأغرب والأعجب.. ليست في تاريخ المسلمين وحدهم بل في التاريخ أجمع.. أي قواعد تلك التي تحكم بإخراج جيش منتصر من دولة قام بفتحها والاستيلاء عليها؟؟.. أي حكمة في أن تعاد الأمور بشكل قد يجعل من فقد بلاد ثرية ممتدة مليئة بالخيرات أمرا واردا وممكنا؟!!.. وأي عدل هذا الذي ينصر كهنة على غير دين الإسلام على قائد جيوش عربي مسلم له من المكانة ما له؟!!!
كانت كل تلك الأسئلة كفيلة بأن يعلن أهل سمرقند[5] احترامهم وتقديرهم لحكم القاضي.. وتراجعهم عن دعواهم.. وموافقتهم على أن يظل الوضع الموجود قائما والحكم الإسلامي مظلِّلا لأراضيهم بعد ما اطمئنوا لعدالة تلك الشريعة وسماحتها واحترامها للآخر مهما كان مختلفا.
فهل يعي المتحدثون عن قسوة المسلمين ووحشيتهم وبداوتهم ذلك الرقي وتلك العدالة التي استمدوها من تعاليم دين جاء رحمة للإنسانية جمعاء بدون تفرقة بين أبيض وأسود أو عربي وأعجمي؟
هل سيحاولون تغيير منهجيتهم من الهجوم وترصد الأخطاء إلى البحث والتنقيب والتماس الصواب قبل الحكم؟
أتمنى من الله العلمي القدير أن يُنير البصائر ويهدي الجميع لما فيه خيري الدنيا والآخرة.
الهوامش:
[1]– سمرقند حاليا هي مدينة في أوزبكستان وهي عاصمة بلاد ما وراء النهر التاريخية، عدد سكانها 400,000 نسمة معظمهم طاجيك (يتحدثون الفارسية لا الطاجيكية). تشتهر بتخريج علماء الدين.
موسوعة المعرفة https://www.marefa.org/%D8%B3%D9%85%D8%B1%D9%82%D9%86%D8%AF
[2] – الجزيةُ: ضريبة مالية من أموال غير المسلمين المستظِلّين براية الإسلام، وهي مقدار يتراوح بين اثني عشر درهما، وثمانيةٍ وأربعين وذلك ليُسهموا في ميزانية الدولة التي تحميهم في أنفسِهم وأموالهم وأعراضهم فهي في مقابل ما يؤخذ من المسلم، فالمسلم يُؤخَذ منه خُمس الغنائم والزكاة، وصدّقة الفطر، وغير ذلك مثل الكفّارات للذنوب المختلفة، وتنفق الجزية في المصالح العامة، وعلى فقراء أهل الذمة أيضا.
مركز الفتوى، موقع إسلام ويب http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=162823
[3] – للقصة مصادر متعددة منها ذلك النص: (قال علي: أخبرنا كليب بن خلف، عن طفيل بن مرداس، قال: كتب عمر إلى سُلَيْمَان بن أبي السري: أن اعمل خانات في بلادك، فمن مر بك من المسلمين فأقروهم يوما وليلة، وتعهدوا دوابهم، فمن كانت به علة فأقروه يومين وليلتين، فإن كان منقطعا به فقووه بما يصل به إلى بلده، فلما أتاه كتاب عمر، قال أهل سمرقند لسُلَيْمَان: إن قتيبة غدر بنا وظلمنا، وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والإنصاف، فائذن لنا فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين يشكون ظلامتنا، فإن كان لنا حق أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة، فأذن لهم، فوجهوا منهم قوما، فقدموا على عمر، فكتب لهم عمر إلى سُلَيْمَان بن أبي السري: أن أهل سمرقند قد شكوا إلي ظلما أصابهم، وتحاملا من قتيبة عليهم، حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا، وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة، قال: فأجلس لهم سُلَيْمَان جميع بن حاضر القاضي الناجي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم، وينابذوهم على سواء، فيكون صلحا جديدا، أو ظفرا عنوة، فقال أهل السغد: بل نرضى بما كان ولا نجدد حربا، وتراضوا بذلك.. ا.ه)، موسوعة الحديث الشريف، تاريخ الطبري
وللقصة روايات بتفاصيل أكثر في كتب: فتوح البلدان للبلاذري، والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي للشيخ عبد الشافي محمد عبد اللطيف، وكتاب/ عمر بن عبد العزيز معالم التجديد والإصلاح الراشدي على منهاج النبوة للدكتور علي الصلابي.
[4] – تاريخ الطبري، الجزء السادس، تاريخ الرسل والملوك
[ica_orginalurl]