د. رمضان فوزي بديني
أسلوب الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى له أهمية كبرى وتأثير عظيم على المدعوين لتقبل الدعوة؛ ولذا جاء التوجيه الرباني بجعلها من أوائل الأساليب في الدعوة؛ حيث قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125).
وقد كتب د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني مؤلفا كاملا بعنوان “مفهوم الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى في ضوء الكتاب والسنة”.
ويمكن استعراض بعض مظاهر أسلوب الحكمة في الدعوة من خلال ما جاء في هذا الكتاب فيما يلي:
– القول الحسن: إذا أحكم صاحب الدعوة قوله، وسدد لفظه؛ فقد أوتي من الحكمة بابا عظيما، يقول الله عز وجل: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].
– التصريح والتعريض، ومن الحكمة في بعض المواقف الجنوح إلى التعريض والتلميح دون التصريح؛ فالتصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم، والتبجح بالمخالفة، ويهيج على الإصرار والعناد.
أما التعريض فيستميل النفوس الفاضلة، والأذهان الذكية، والبصائر اللماحة.
قيل لإبراهيم بن أدهم: الرجل يرى من الرجل الشيء أو يبلغه عنه، أيقوله له؟ قال: هذا تبكيت، ولكن تعرض.
وكل ذلك من أجل رفع الحرج عن النفوس، واستثارة داعي الخير فيها. كيف والتعريض سنة محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم في مخاطبة أصحابه: «ما بال أقوام يفعلون كذا ويقولون كذا» .
– المداراة: وهي صورة من صور التعامل الدال على الحكمة، والموصل إلى المقصود مع حفظ ما للداعي والمدعو من كرامة ومروءة.
وقد بوب الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه، فقال: “المداراة مع الناس”، ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها أنه “استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: “ائذنوا له فبئس ابن العشيرة، أو بئس أخو العشيرة. فلما دخل ألان له الكلام. تقول عائشة: فقلت يا رسول الله: قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال: أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه” (صحيح البخاري، باب “المداراة مع الناس، حديث رقم 6131).
– تحري أوقات الفراغ والنشاط والحاجة عند المدعوين، وتخولهم بالموعظة والتعليم من أعظم ما يعين الداعية على استجلاب الناس وجذب قلوبهم إلى دعوته.
– من الدعوة إلى الله بالحكمة أن يبدأ الداعية بالمهم، ثم الذي يليه، وأن يجعل للمدعو من الدروس ما يسهل عليه حفظها وفهمها، والتفكر التام فيها، وأن يعلم العوام ما يحتاجون إليه بألفاظ وعبارات قريبة من أفهامهم تناسب مستواهم مع مراعاة التنويع في الأسلوب والتشويق.
– إن مراتب الدعوة بحسب مراتب البشر، فالقابل للحق يدعى بالحكمة، فيبين له الحق بدليله: علما وعملا واعتقادا، فيقبله ويعمل به. وهذا هو القسم الأول من المسلمين، والقابل للحق الذي عنده شهوات تصده عن اتباع الحق يدعى بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل، ويغذى بالحكمة التصويرية: من القصص الحكيم، وضرب الأمثال، ولفت القلوب والأنظار إلى الصور المعنوية وآثارها، والآثار المحسوسة. وهذا هو القسم الثاني من المسلمين وهم العصاة. والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن.
والظالم الذي عاند وجحد ولم يقبل الحق بل وقف في طريقه، فهذا يدعى بالقوة إن أمكن.
فهذه مراتب الدعوة بحسب مراتب البشر، ويلاحظ أن مرتبة الحكمة ملازمة لجميع المراتب الأخرى، وذلك؛ لأن الحكمة في الحقيقة هي وضع الشيء في موضعه والإصابة في الأفعال والأقوال والاعتقادات إصابة محكمة متقنة.
مظاهر الحكمة مع أهل الديانات المختلفة
يجب أن نتعرف على مسالك الحكمة ومظاهرها في دعوة أهل الديانات المختلفة؛ حيث يحتاج كل فريق منهم إلى مفتاح مختلف لدعوته، وهي تتمثل فيما يلي:
– من أعظم الحكمة في دعوة الملحدين أن تقدم لهم الأدلة الفطرية على وجود الله -تعالى- وربوبيته، والبراهين العقلية القطعية بمسالكها التفصيلية، والأدلة الحسية المشاهدة، ثم يختم ذلك بالأدلة الشرعية.
– من الحكمة في دعوة الوثنيين بالحكمة القولية أن يقدم لهم الداعية الحجج والبراهين العقلية على إثبات ألوهية الله – تعالى-، وأن الكمال المطلق له من كل الوجوه، وما عبد من دونه ضعيف من كل وجه، وأن التوحيد الخالص دعوة جميع الرسل -عليهم الصلاة والسلام-والغلو في الصالحين سبب كفر بني آدم، والشفاعة لا تنفع إلا بإذن الله للشافع ورضاه عن الشافع والمشفوع له، وأن البعث ثابت بالأدلة العقلية والنقلية القطعية، وأن الله الذي سخر جميع ما في هذا الكون الفسيح لعباده فهو في الحقيقة المستحق للعبادة وحده.
– دعوة اليهود بالحكمة القولية إلى الله –تعالى- ترتكز على إثبات نسخ الإسلام لجميع الشرائع، وإظهار وإثبات وقوع التحريف في التوراة، واعتراف المنصفين من علمائهم، وإثبات رسالة عيسى ومحمد، عليهما الصلاة والسلام.
– دعوة النصارى بالحكمة القولية إلى الإسلام تقوم على إبطال عقيدة التثليث، وإثبات وحدانية الله -تعالى-، وتقديم الأدلة العقلية والبراهين القطعية على إثبات بشرية عيسى صلى الله عليه وسلم، وأنه عبد الله ورسوله، ثم تقديم البراهين على إبطال قضية الصلب والقتل، وإثبات وقوع النسخ والتحريف في الأناجيل، وتتويج ذلك بالاعترافات الصادقة من المنصفين من علماء النصارى.
– إن من حكمة القول مع أهل الكتاب وغيرهم من الكفار أن تقدم لهم الأدلة والبراهين القطعية على صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك ببيان معجزات القرآن الكريم التي عجز عنها جميع الجن والإنس، ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم الحسية المشاهدة، ثم تتويج ذلك بالأدلة القطعية على عموم رسالة الإسلام في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة.
– إن من مقتضى العقول السليمة والحكمة السديدة ألا يخاطب المسلم -في توجيهه وإرشاده وحثه على الالتزام بدينه- كما يخاطب الملحد، أو الوثني، أو الكتابي، أو غيرهم من الكفار.
[ica_orginalurl]