د. حسن عزوزي
لم تعد وظائف وسائل الإعلام والاتصال الحديثة تقتصر على نقل الأحداث والوقائع وتفسيرها من وجهة نظرها، بل أصبح لها دور في صنع هذه الأحداث وصياغة
القرارات وتوجيه الرأي العام وتنميط سلوكه وأفكاره، كما أصبحت القدرة على استقبال المعلومات ونشرها وتداولها من بين أهم مرتكزات القدرة على السيطرة على سائر الأعمال الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وأضحى الإعلام اليوم قادرا، بفضل التطور الهائل لتقنياته، على المساهمة في بناء الإنسان أو هدمه، وعلى ترسيخ القيم أو تخريبها، كما أنه أصبح قادرا على تعزيز التفاهم والاحترام بين الشعوب، بقدر ما هو قادر كذلك على أن يشوه الآخرين ويضفي التعتيم على قضاياهم.
الإعلام الغربي وصورة الإسلام
منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، لم يعرف الحديث عن واقع صورة الإسلام والمسلمين في الغرب من الاهتمام والبحث والمدارسة ما يعرفه الآن، حيث إن المتتبع لتداعيات تلك الأحداث لا يملك إلا أن يستغرب لفظاعة الصورة التي تكونت في الإعلام الغربي عن الإسلام والمسلمين، حيث وجد في الصورة المصطنعة عن الإسلام مادة خصبة لنسج صور نمطية موغلة في الازدراء والاستخفاف بتعاليم الإسلام ومبادئه من جهة، وعادات وتقاليد المسلمين من جهة أخرى.
وإذا كانت ظاهرة صنع صورة مسيئة للإسلام والمسلمين في الغرب ذات جذور تاريخية وفكرية امتدت إلى قرون عديدة، ابتداء من المرحلة الصليبية خلال القرون الوسطى ومرورا بالمرحلة الاستشراقية، فإنه يمكن القول بأن هذه الظاهرة السلبية قد استأثرت بها في السنوات الأخيرة وسائل الإعلام الغربية، حيث أمست ظاهرة تشويه صورة الإسلام والحضارة الإسلامية في وسائل الإعلام ظاهرة حقيقية، وليست متوهمة أو مبالغا فيها، فقد استطاعت الأجهزة الإعلامية الغربية أن تنقل صور التشويه والتمييع من بطون الكتب والدراسات الاستشراقية إلى أن تكون زادا مثيرا تقتات منه وسائل الإعلام في كل مكان، وغدت تلك الصور «جماهيرية» بعد أن كانت «نخبوية».
لقد أضحى الحديث عن الإسلام يشكل وجبة دسمة في مختلف وسائل الإعلام الغربي، والتي برعت في إلصاق تهمة العنف والإرهاب به وبأتباعه، مما فاقم من حدة الاهتمام والمتابعة لكل ما يرتبط بالعالم الإسلامي، الذي أمسى منبع الخوف والريبة بالنسبة إلى الغربيين. ولاشك في أن الإعلام الغربي، بما يمتلكه من إمكانات جبارة وقوة الجذب والتأثير، قد استطاع أن يجعل الشأن الإسلامي ضمن اهتمامات الإنسان الغربي، الذي أصبح في الآونة الأخيرة ينظر إلى المسلم في الديار الغربية نظرة حذر وارتياب وخوف. ولذلك، باتت الصور الكاريكاتيرية العنصرية، واللقطات الإعلامية السلبية أكثر الصور انتشارا وذيوعا، وأمست الآلة الإعلامية الغربية لا تجد غضاضة في نهج مختلف السبل لعرض الإسلام وتحليله وتصويره بشكل يجعله «معروفا»، وفق طريقتها، للقراء والمشاهدين الغربيين، فتكونت من جراء ذلك صور مشوهة عن ديننا تهم كل مجالاته وتعاليمه ومبادئه تكرست في أذهان الغربيين وأمست شيئا مألوفا، فأصبحنا نقرأ ونسمع أوصافا فظيعة وتهما مكذوبة وأراجيف مختلقة توجه ضد الإسلام والمسلمين، وتعمل على تشويه الصورة وتزييف الحقائق من خلال الكتابات الاستشراقية ومواد الموسوعات ودوائر المعارف وكتب المناهج الدراسية الغربية، فضلا عن وسائل الإعلام بمختلف مكوناتها: المكتوبة والمرئية والمسموعة.
أبرز أسباب التشويه الإعلامي الغربي لصورة الإسلام والمسلمين
لم يكن صعبا على مختلف مكونات الإعلام الغربي في فترة من الفترات العمل على إشاعة الخوف من الإسلام، وإحداث نوع من الإقناع لدى الإنسان الغربي بأن الإسلام دين مخيف. ولذلك، تم العمل على إيجاد صورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين تجرد الإسلام من كامل خصائصه وملامح حضارته الإنسانية.
والواقع أن هناك أسبابا وبواعث كثيرة تدفع الإعلام الغربي، بمختلف مكوناته، إلى تشويه صورة الإسلام والمسلمين، لعل أبرزها ما يلي:
أولا – الجهل وسوء الفهم:
تقوم مختلف مكونات الإعلام الغربي، المرئية والمسموعة والمكتوبة، بإمداد القراء والمشاهدين بالأفكار المغلوطة والصور الذهنية السلبية عن الإسلام والمسلمين، مما هو ناتج، في بعض الأحيان، عن جهل مطلق بحقائق الإسلام وتعاليمه، وسوء فهم كبير لقيمه وثقافته المتميزة.
إن سوء فهم الغربيين للإسلام يرجع -أحيانا- إلى حرص المسلمين على تمسكهم بمبادئ الإسلام وأن تكون حاكمة لهم في جميع مناحي الحياة، وهذا ما يجعل الغربيين لا يفهمون الإسلام إلا من خلال هذه المظاهر والمشاعر الدينية التي يرونها غير منسجمة مع قيم الغرب الحداثية. لذلك، فسوء الفهم يرجع أساسا إلى وجود ميل متواصل لافتراض أن المعايير والقيم الغربية هي المرجع الوحيد في أي تحليل أو حكم على الأشياء، وأن مثل هذه المقاربة تركز بشكل رئيسي على تحليل نقط الاختلاف بين الإسلام والثقافة الغربية. ويلاحظ أن البحث عن نقاط الخلاف لا يهدف إلى فهم سلوك المسلمين، وإنما من أجل التأكيد على الاختلاف والتمايز، والتشديد -ضمنا- على تفوق الثقافة الغربية. ويرى بعض الباحثين الغربيين المنصفين أنه من أجل إزالة سوء الفهم المتبادل لابد من الاعتراف البصير والمتسامح بمساحات الاختلاف بين الثقافتين الإسلامية والغربية، فليس أمينا ولا راغبا في بناء علاقات سوية وواقعية من يتجاهل الاختلاف بين الحضارتين أو ينكره(1).
كما أن من أكبر أسباب الجهل وسوء الفهم لدى الغربيين بالإسلام أن كثيرا من الحقائق والتعاليم والقيم الإسلامية بقيت غير معروفة، خصوصا تلك القيم والمثل المرتبطة بوسطية الإسلام وسماحته، ودعوته الخالدة إلى الحوار والتعايش، ونبذ العنف والتطرف، وربما لو عرفها عموم الغربيين لكان لها أكبر الدور في تحسين صورة الإسلام وإزالة سوء الفهم الموجود اليوم.
ثانيا – الإرث الاستعماري:
يمكن التأكيد على أن واقع الاستعمار الغربي للدول الإسلامية كان منبعا أصيلا لكثير من الصور الزائفة التي صنعها الغرب، وهي الصور النمطية التي عادت لتزكي وتبرر المخيلة الغربية نزعة الاستعمار والاستعلاء والرغبة المستمرة في الاحتواء، وذلك بصناعة صورة الآخر عن الإسلام وحضارته، تلك الصورة التي نمت مكوناتها لتبرر للغرب نفي الآخر الإسلامي من جهة، ولتشحن الشعوب غير الإسلامية بالعداء للإسلام. يقول المؤرخ الفرنسي ذو الكتابات المنصفة عن الإسلام مارسيل بوازار Marcel Boisard: «إن كتابات المستشرقين -عدا بعض الاستثناءات النادرة- لم تسهم في تصحيح فهم الإسلام أو إعادة تدقيق الصورة التي كانت لدى الرأي العام الغربي إلى نصابها الصحيح، لأن الاستشراق كان في الأصل أحد الفروع العلمية المرتبطة بالعلوم الاستعمارية….»(2).
ثالثا – أفعال وتصرفات بعض المسلمين المتطرفة:
ينبغي ألا ننكر أن أفعال وسلوكيات بعض فئات المسلمين تغني -أحيانا- عن مساهمة الإعلام الغربي في تشويه صورة الإسلام، فتكون تلك التصرفات كافية لكي يحصل الخلط لدى الآخرين بين مبادئ الإسلام وتعاليمه وتصرفات بعض المسلمين التي يتبرأ منها الإسلام والتي تسهم في ترسيخ صور نمطية سلبية عن الإسلام والمسلمين في أذهان الغربيين.
وهكذا.. فإن الإعلام الغربي يصر على الربط بين ظاهرة الأصولية الإسلامية، وحركة التدين بصفة عامة، مع الإصرار على التركيز على بعض السلبيات، مثل: الغلو والتشدد والتطرف وأحداث العنف، من جانب هذه الجماعات عند الربط بينها وبين الإسلام والمسلمين.
ويؤكد الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا Francois Burgat على أن الإعلام الغربي يبرز وجها سيئا للإسلام من خلال تصرفات بعض المسلمين المتطرفة، ولا يبرز الوجه الإيجابي، كما أنه يتم التركيز على العناصر والحركات غير المنضبطة، والتي لا تعبر إطلاقا عن مجمل الظاهرة الإسلامية، فعمليات خطف الرهائن والتفجير وأعمال العنف الناشئة عن سوء الفهم لحقيقة الإسلام في مبادئه وتعاليمه وقيمه، كلها تدفع الإعلام إلى استغلالها والتركيز عليها وبالتالي يتم الربط بينها وبين الإسلام (3).
وعلى الرغم من اعتراف كثير من وسائل الإعلام الغربية بنتيجة الحكم على الإسلام من خلال تصرفات طائشة وسلوكيات عنيفة لبعض المنتسبين إلى الإسلام، فإن واقع صورة الإسلام والمسلمين في الإعلام الغربي يظهر تمادي جل الوسائل الإعلامية الغربية في تبني أسلوب الخلط المتعمد، علما بأن الجميع يقر بأن ظاهرة التطرف والغلو تمس جميع الديانات والحضارات وليس الإسلام فحسب.
رابعا – الخوف من الإسلام (الإسلاموفوبيا):
تعتبر لفظة الإسلاموفوبيا Islamophobie المصطلح الأكثر تعبيرا عن عقدة الخوف والهلع من انتشار الإسلام ونفوذ قوته الدينية والثقافية والبشرية داخل المجتمعات والدول الغربية. وتدل اللفظة في القواميس النفسية على الخوف المرضي والرهبة والخوف اللاشعوري (4). وفي الاصطلاح العام تدل اللفظة: على ما تم ترسيبه وإشاعته من قلق مرضي وخوف نفسي لا شعوري لدى الغرب من الإسلام وكل ما يتصل به. وينتعش هذا المصطلح أكثر عندما يحتد العداء الغربي للإسلام، ويظهر من خلال القيام بحملات تشويهية لصورة الإسلام والمسلمين، خصوصا عبر الإعلام الغربي لكل مكوناته. إنه مصطلح جامع لعمليات التشويه المشحونة بالدسائس والأكاذيب ضد الإسلام وحضارته.
ويمكن إجمال أسباب تفاقم واستمرار الخوف من الإسلام في ما يلي:
– قدرة الإسلام على الانتشار والامتداد. فالغربيون يعترفون، مع شيء من الحيرة والدهشة، بأنه فعلا هناك ما يخيف في الإسلام كدين كاسح له قابلية التنامي والانتشار بسرعة مذهلة.
– إقبال الغربيين على اعتناق الإسلام بكثافة، وبكل تلقائية وطواعية واقتناع، مما يدفع إلى التخوف من احتمال تناقص أتباع المسيحية لمصلحة الإسلام.
– تزايد أعداد العرب والمسلمين وأبنائهم وأحفادهم في البلدان الغربية، ودخول نخبة منهم تحت قبة البرلمانات الغربية، مما يدعو الغربيين إلى التوجس من احتمال بروز دور قوي للجاليات العربية والإسلامية في القرارات السياسية للدول المضيفة. إن اللافت للنظر والداعي للاستغراب أن بقية الأديان في العالم لا ينظر إليها مثل ما ينظر إلى الإسلام كدين مخيف وعدواني، فأتباع البوذية والكونفوشية والهندوسية كثر في المجتمعات الأوروبية والأمريكية، لكنها لا تلقى ما يلقاه الإسلام من إقصاء وتخويف وتشويه.
هكذا إذن يتبين بوضوح أن ثمة أسبابا تكمن وراء التحامل الإعلامي الغربي ضد الإسلام والمسلمين، وهي الأسباب التي يمكن التأكيد على أن تبديدها ومواجهتها ليس بالأمر الهين، خصوصا أنها تبدو متجذرة في المخيلة الغربية التي أضحت لا تصدق إلا ما هو سلبي تجاه الدين الوافد عليها. ويبقى مع ذلك واجب العمل على تصحيح الصورة قائما لابد أن تقوم به كل جهة تستأنس من نفسها القدرة على تحسين صورة الإسلام والمسلمين.
الهوامش:
1- جون سيوزيتو، التهديد الإسلامي: خرافة أم حقيقة، طبعة القاهرة، ص314.
2 – M.Boisard : l’humanisme de l’Islam. Paris 1992p 38.
3 – 3Francois Burgat : L’Islam au Maghreb–ed Karthala 1988 p 120.
4 – د. أسعد زروق، موسوعة علم النفس، طبعة بيروت 1979، مادة فوبيا.
———-
* المصدر: مجلة الوعي الإسلامي.
[ica_orginalurl]