الاستشارة:
لا أدري ما الذي يحدث لي فأنا أتخبط وأنظر إلى نفسي فأرى حالي من سيئ إلى أسوأ، وأشعر بأني بدون قلب نعم بدون قلب. لم أعد أرى طريق العودة إلى الله كما كنت أراه.
كنت عندما أبتعد عن الله، أعود وتكون عودتي بتوبتي ودموعي وخشوعي، ولكن الآن أرى أني لم أعد أقوى على مواجهة رغباتي؛ فهي تسحبني إلى الهاوية حتى إنني لم أصم غير أول أيام رمضان فقط.
لم أعد أصلي منذ فترة بعد أن كنت مواظبا على الصلاة في وقتها ولا أفوّت على نفسي صلاة واحدة، وكنت بمقام الداعي إلى الصلاة لأصدقائي.
ماذا أفعل ليعطيني الله قلبا جديدا أشعر وأحس به بقربي إلى الله؟.. أتوق أن أذهب لعمل العمرة أو الحج ولكني لا أملك المال.. أشعر بأني أحتاج لأن أعود كطفل صغير لأبدأ حياتي من جديد بدون معاص وذنوب، أشعر بأني أريد أن أبكي حالي على ما وصلت إليه من انحطاط.
ما زلت بين الناس أتحلى بالأخلاق وأعطي كل ما لدي لهم ولا أشتم ولا أتلفظ بأي لفظ غير لائق، وأحافظ على المكان الذي أعمل به. خيري للناس وليس لنفسي.
ساعدوني أرجوكم فأنا لا أنام، والأرق منذ أشهر وهو يلازمني.
أحتاجكم إخواني.. أحتاجكم جميعا.
الإجابة
يقول د. رمضان فوزي:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أخي الكريم، وأهلا بك أخي الحبيب، وتقبل الله منا ومنكم وكل عام وأنتم بخير.
اعلم أخي أن الله عز وجل إذا علم من العبد صدق التوبة والإيمان فتح أمامه طرق الهداية والعودة إليه؛ فهو القائل -عز وجل-: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ}. وكأني بك الآن تتساءل: “هل معنى ذلك أن الهداية للمؤمنين الطائعين فقط، وأنه لا أمل للعاصي؟” فأقول لك: لا يا أخي، إن المقصود بالآيتين الكريمتين أن هناك نفوسا طيبة بطبيعتها تقبل الهداية وتريد التوبة والعودة بصدق، فإذا علم الله منها ذلك يسر لها طريقة العودة والرجوع إليه، ومهد لها طريق الهدى والرشاد، فإذا استمرت في سيرها في هذا الطريق زادها الله هدى على هداها؛ فأصبحت من الهداة المهديين.
وأراك لا تزال حائرا، وتتساءل: “وما أدراني أن نفسي من هذه النفوس؟ وماذا أفعل حتى يمهد لي الله هذا الطريق؟”.
أقول لك: أظن أنك إن شاء الله من هذا الفريق، وها أنت قد وضعت قدمك على أول الطريق؛ فرسالة مثل رسالتك وصدقك فيها لا يخرج إلا عن إنسان أدرك خطأه، وشخّصَ داءه ويسأل عن الدواء، فلا تدري يا أخي كم هزني قولك: “وأشعر بأني بدون قلب.. نعم بدون قلب. لم أعد أرى طريق العودة إلى الله كما كنت أراه”.
لا يا أخي، طريق العودة إلى الله موجود، وبابه دائما مفتوح، ويده مبسوطة بالليل ليتوب مسيء النهار ومبسوطة بالنهار ليتوب مسيء الليل، هو أرحم بنا من أمهاتنا ومن أنفسنا، خيره إلينا لا ينقطع مع كثرة معاصينا، وتقربه لنا مع غناه عنا ليس له حدود.
ولكنه -سبحانه وتعالى- تعهد على نفسه أن يأخذ بيد من أراد التوبة والرجوع إليه، وعلامة ذلك مجاهدة النفس وإلجامها بلجام التقوى؛ فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}؛ فهداية السبيل متوقفة على الأخذ بالأسباب الموصلة لها، وأبرزها مجاهدة النفس وهو المقصود بهذه الآية الكريمة التي نزلت قبل الأمر بجهاد الأعداء.
وأنت -أخي الحبيب- قد وضعت قدمك على أول طريق المجاهدة، وبدأت تخطو فيه بعض الخطوات؛ فلا تتوقف عن السير فيه؛ فأول هذا الطريق الإدراك والشعور بالذنب، ثم يأتي بعد ذلك الاعتراف به مع النفس ومواجهتها به في شجاعة، ثم تلمُّس علاجه والسعي الحثيث له في مظانه، وها أنت قد جئت تطلب العلاج منا، ونسأل الله أن يعيننا على وصفه لك بعد أن وفرت علينا تشخيص الداء..
وهديناه النجدين
وبداية لا بد أن تعرف أن الإنسان بطبعه مهيَّأ لطريقين تتنازعه قوتان؛ فهو ترفعه مشاعر الخير إلى السمو، وتهوي به دوافع الشر إلى الحضيض، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}:
فهناك فريق من الناس إذا غلبه شيطانه فضل وهوى، سرعان ذكر الله فأفاق، وتنبهت أسباب الخير في نفسه فأناب، وأسرع بالتوبة، يغسل بها الذنوب والآثام، ولقد علم الله من الإنسان ضعفه فيسر عليه السبيل في جهاده نفسه، وفتح له باب الرجوع على مصراعيه، وناداه في محكم كتابه {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}؛ فهذا الفريق سريع الذكر سريع الأوبة والعودة وعده الله المغفرة والمثوبة {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}.
وهناك فريق آخر يستهويه الشيطان فينسى من نفسه معنى الروح والإنسان، ويهوي به الحنين إلى معنى الطين الذي خلق منه؛ فإذا ضل فلا سبيل للعودة، وإذا زل فلا طريق للتوبة، وإذا هوي به ذنبه هوي به إلى مكان سحيق، بعد أن كان صراط الله المستقيم واضحا أمامه؛ فهذا يصدق عليه قول الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}.
أخي الحبيب إذا كنت قد قصرت في حق نفسك وربك؛ فكن من الفريق الأول، وانفض عن نفسك غبار الغفلة، وأزح عن عينيك بريق المعاصي الذي يهوي بصاحبه إلى قعر جهنم، وقوِّ في نفسك معنى الإنسان والروح الذي تصير به في منزلة أعلى من الملائكة، وها هو ربك يفتح أمامك أبوابه، فاستعن على الدخول إليها بقصر الأمل وتذكر الموت الذي يأتي بغتة، وألح على الله تعالى بالدعاء؛ فهو سبحانه القائل في حديثه القدسي: “يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة”.
واجبات عاجلة
أخي قم الآن بمجرد قراءتك كلماتي هذه، وتوضأ وصل ما فاتك اليوم من صلوات، وقف أمام ربك موقف الخاضع الذليل، متذكرا أنه ربما يأتيك الموت الآن أو بعد لحظات، فسابق الموت قبل أن يسابقك، واستعد له قبل أن يباغتك؛ فهو يأتي بغتة، وحينها لا ينفع نفسا إيمانها. وتأكد أن العمر لن يرجع بك ولن تعود طفلا صغيرا -كما تتمنى- لتبدأ حياتك بلا ذنوب، ولكن الفرصة ما زالت أمامك فانتهزها، والعمر ما زالت فيه بقية فلا تضيع ولو لحظة واحدة منه، وإذا كان شهر رمضان قد انقضى أكثره فما زالت هناك أيام العتق من النار؛ فشمر فيها عن ساعد الجد والاجتهاد، وأرِ ربك من نفسك خيرا، وأكثر من دعائه -عز وجل- أن يهديك السبيل، وأن يرزقك قلبا جديدا تشعر به بقرب الله منك، متمثلا قول الشاعر:
إلهي لا تعذبني فإني *** مقر بالذي قد كان مني
وما لي حيلةٌ إلا رجائي *** وعفوك إن عفوت وحسن ظني
وكم من زلة لي في الخطايا *** وأنتَ عليّ ذو فضلٍ ومنِ
إذا فكرتُ في ندمي عليها *** عضضتُ أناملي وقرعتُ سني
أخي، عاهد الله عز وجل على الصدق معه والرجوع إليه، وكن رجلا مع ربك، كن من الذين قال تعالى فيهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ}. وضع أمام عينيك دائما قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}.
نصائح للثبات
وهذه بعض النصائح التي أسأل الله أن تكون معينا لك على العودة إلى ربك:
اجتهد أن تستغل ما تبقى من شهر رمضان؛ فالنفوس فيه مهيأة للتغيير، والأرض خصبة فسارع برمي بذرة التوبة والأوبة فيها؛ حتى إذا انقضى رمضان وفكت الشياطين من سلاسلها كان لديك من أسلحة التقوى ما تصدهم به.
ادفع عن نفسك الشعور باليأس والإحباط، وثق في نفسك وأنك رجل ذو عزيمة تستطيع من خلالها كبح جماح الشهوات والغرائز، وأن نفسك الأبية لا تقل شهامة ورجولة مع ربك عن هؤلاء الفتية أبناء بلدك وجيلك الذين باعوا أرواحهم رخيصة فداء لدينهم؛ ففجروها بكل رضا ويقين ليدمروا بها شياطين الإنس والجن.
أنصحك الآن أن تحضر قلما وثلاث ورقات وتجلس مع نفسك جلسة صدق ومصارحة كالتالي: في الورقة الأولى اكتب بعض نعم الله عليك التي لا تحصى، ثم اختر نعمة منها -ولتكن نعمة البصر مثلا- وفكر كيف تشكر الله عليها، وتخيل حالك إذا سلبها الله منك، واسأل نفسك: “هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟”.
في الورقة الثانية اكتب الذنوب التي تقترفها بادئا بأخطرها، ثم اختر أولها وتفكر في حالك وأنت تقترفه، ونظرة الله لك، وماذا لو اطلع عليك الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم -الذي تعب لهدايتنا والأخذ بأيدينا من الظلمات إلى النور- وأنت على هذه الحال؟ وتخيل أن ملك الموت فوق رأسك الآن ليقبض روحك؛ فهل ترضى أن تقابل ربك وأنت في هذه الحال؟ ثم عاهد نفسك وربك على التخلي عن هذه الذنوب بادئا بأخطرها، وحدد لنفسك مكافأة على كل ذنب تتركه، وعقوبة على كل ذنب تأتيه مرة أخرى، على أن تضاعف هذه العقوبة مع تكرار الذنب نفسه.
في الورقة الثالثة اكتب الطاعات والفرائض التي تفرط فيها، بادئا بأهمها، ثم تفكر في الأجر والثواب الذي فاتك لتضييعك كل فريضة، وتفكر في العقوبة التي تنتظرك إذا أصررت على تضييعها؛ فمثلا اختلف العلماء في تارك الصلاة تكاسلا بين تكفيره وتفسيقه، وفي كلتا الحالتين حده القتل إن لم يرجع إليها؛ فهل ترضى لنفسك أن يكون دينك بين التكفير والتفسيق؟ ثم ابدأ بأداء الفرائض مستخدما مع نفسك الثواب والعقاب.
للدعاء أثر كبير في التغيير؛ فألح على الله في الدعاء في هذه الأيام المباركة أن يهديك ويردك إلى دينك ردا جميلا، وأوص من تتوسم فيهم الخير بالدعاء لك، دون أن ترح لهم بشيء مما أنت فيه.
الصحبة الصالحة علاج ناجع للتغيير؛ فابتعد عن صحبتك السيئة، واستبدل بهم أصحابا صالحين من رواد المساجد وألق بنفسك بينهم وتشبث بهم؛ فهم خلاصك مما أنت فيه.
أنت تحتاج إلى مجاهدة كبيرة للنفس، وستجد صعوبة في البداية ولكن ثق أن هذا في البداية فقط، وبالصبر ستتذوق حلاوة الطاعة، وإذا تذوقتها فلن تتخلى عنها بعد ذلك. ويفيدك في هذا الجانب أن تقرأ في سير الصالحين والعائدين إلى الله، وفي كتب الرقائق.
إذا دعتك نفسك للمعصية فكرر عيها “الله شاهدي.. الله ناظري.. الله معي”، مستشعرا مراقبة الله لك.
لا تكثر من الاختلاء بنفسك، واحرص أن تخالط الناس؛ فهذا أدعى لطرد أسباب المعصية عنك.
احمد الله على تحليك بحسن الخلق بين الناس؛ فهذا سبب لقربك من الحبيب -صلى الله عليه وسلم- والله عز وجل يعفو ويصفح عن الذنوب التي في حقه بمجرد التوبة، ولكن الذنوب التي في حق العباد فلا بد من استسماح أهلها.
أكثر من ذكر هادم اللذات فهو يأتي بغتة، وحين يأتي لا تنفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت قبل أو كسبت في إيمانها خيرا.
وفي النهاية أخي الكريم أسأل الله لنا ولك الهداية والرشاد، وأن يردنا إلى ديننا ردا جميلا، وأسألك دعوة صالحة بظهر الغيب يكفر الله بها عنا ما كان من تقصير، وأن لا تبخل علينا بمتابعة تطورات حالتك. وتقبل الله منا ومنكم.
[opic_orginalurl]