د. شاذلي عبد الغني إسماعيل
لا يمكن لمنصف عرف الإسلام، وقرأ شرائعه، ودرس تاريخه أن ينكر ما يملكه هذا الدين العظيم من آفاق رحبة للتسامح والرحمة والمودة؛ فالباحث في ديننا الإسلامي سيقف أمام نصوص غنية بقيم التسامح؛ ترشد إليه، وتأمر به، وتنهى عما يعكر صفوه، وتدعو إلى كل ما يرسي دعائمه ويغرس فضائله في نفوس من ينتمون إلى هذه الأمة..
وسيرى وقائع تشهد للرجال الذين يهتدون بنهج هذا الدين الوضاء أنهم نهلوا من نبع التسامح والرحمة والعدالة حتى صارت هذه الأخلاق تجري في عروقهم يتعاملون بها مع المخالفين لهم في العقيدة ومع المختلفين معهم في الرأي، وسيعلم أن قيم التسامح التي قدمها الإسلام للعالم كانت سببا في انتشاره وتعلق القلوب به، كما كانت الدافع لشعوب الديانات الأخرى للبقاء في ظلاله؛ تؤدي شعائرها، وتقيم معاملاتها، وتعيش حياتها آمنة مطمئنة تنعم بالحرية وطيب المعاملة والعدل والسلام.
وقد كان من الباحثين الغربيين من لاحظ أن التسامح كان العنوان الأبرز للنصوص التشريعية في المعاملات مع المخالفين في وقت الحرب وفي أجواء السلم، ومن ثم كان الداعية الأكثر تأثيرا والأقدر على جذب النفوس للدخول إلى رحاب هذا الدين العظيم، فمثلا بعد أن يضرب السير توماس أرنولد نماذج لتسامح الإسلام نراه يقول: «ومن هذه الأمثلة التي قدمناها آنفا عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون إلى العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة، واستمر في الأجيال المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام، إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح»(1).
التسامح قاعدة إسلامية
إن القراءة في القرآن الكريم وفي سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وأحاديثه الشريفة، تبرز لنا امتداد آفاق التسامح الإسلامي لتشمل جميع مظاهر التعاملات اليومية مع من يخالفونهم في العقيدة، وهذه القراءة ستكشف لنا أن التسامح وما ينتج عنه من رحمة ولين وبر وعدالة وعفو، هو الإجابة عن التساؤلات التي يمكن أن تطرح حول كيفية التعامل مع غير المسلمين المسالمين، يقول الله سبحانه: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الممتحنة:8)، فهذه الآية تمثل قاعدة سار ولا يزال يسير على دربها المسلمون العارفون بدينهم في كل زمان ومكان، إنها تأصيل إلهي لكيفية التعايش المبني على التسامح والتواصل واحترام العلاقات الإنسانية.
ويأتي التذييل في الآية الكريمة {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ليتوج تلك المعاني الإنسانية بمبدأ الإسلام الشامل في تعاملاته مع الجميع، إنه العدل الذي يمثل لنا نحن المسلمين الطريق الذي يمكننا من خلاله أن نصل إلى محبة الله تعالى؛ وتلك هي الغاية العظمى، بل إن القسط هو «العدل البين الظاهر، ومنه سمي المكيال قسطا والميزان قسطا؛ لأنه يصور لك العدل في الوزن حتى تراه ظاهرا، وقد يكون من العدل ما يخفى»(2). وقد رد الطبري (224هـ/310هـ) على من قال إن هذه الآية منسوخة قائلا: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عني بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان، أن تبروهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، إن الله عز وجل عم بقوله: {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ} جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ؛ لأن بر المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب، غير محرم ولا منهي عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح»(3).
وروى أبوداود والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة». ونلاحظ أن «انتقصه» هنا قد تعني انتقصه حقه، أو انتقص من شخصيته بكلمة تؤذيه؛ حفظا للمشاعر الإنسانية وحرصا عليها أن تجرح أو تهان، وقد يكون المعنى انتقصه بغيبة «لأنه بعقد الذمة، وجب له ما لنا؛ فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته، بل قالوا: إن ظلم الذمي أشد»(4). والعقوبة التي تحدث عنها النبي لمن يعرف تقشعر لها أبدان الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر، فليس هناك مسلم على وجه الأرض يقبل على نفسه أن يكون خصمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى الخطيب بإسناد حسن: «من آذى ذميا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة».
وقد وصل تسامح الإسلام مع غيره في العبادات والاعتقادات إلى الغاية التي تجعلنا نتعجب من أولئك الذين قرروا أن يغمضوا أعينهم ويصموا آذانهم عن الحقيقة المشرقة كالشمس، وأصروا أن يصوروا الإسلام كما خيلت لهم عقولهم المنحازة، فلم يكن البحث عن الحقيقة المجردة واحدا من أهدافهم، وإنما كان من أهدافهم تجريد التاريخ والواقع من الحقيقة، لكن في مقابل هؤلاء كان هناك من امتلك الشجاعة ووصف نور الشمس كما رآه، قال الراهب ميشود في كتابه «رحلة دينية في الشرق»: «ومن المؤسف أن تقتبس الشعوب النصرانية من المسلمين التسامح الذي هو آية الإحسان بين الأمم، واحترام عقائد الآخرين، وعدم فرض أي معتقد عليهم بالقوة»(5).
لا إكراه في الدين
إن دستورنا القرآني يقول: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:256)، وقد جاء التطبيق العملي لأمر الله ليشكل نموذجا مدهشا لتسامح القوي المنتصر مع المنهزم الضعيف، نموذجا جعل بعض الباحثين المنصفين في الغرب يقارن بين سماحة الإسلام، التي حققت السلام والمودة وحفظت الدماء والأعراض وكفلت حرية العقيدة والعبادة وصنعت نقلة حضارية عملاقة بين أرجاء البلاد التي فتحها رجاله، وبين المجازر المروعة والأعمال الوحشية والانتهاكات البشعة التي ظل يرتكبها غيرهم في كل أرض وطأتها أقدامهم، نقل المنسنيور دوشين (وهو من كبار رجال الكنيسة) في معرض دراسته عن حالة الكنيسة في سورية إبان القرن السابع مقطعا يستوقف الانتباه، قال فيه عن الفتح العربي، بعد أن ذكر الاضطهاد الذي كابده أولئك اليعقوبيون الذين لم يقبلوا اتحاد هرقل: «إن إله الانتقام، وقد رأى شرور الرومان، الذين كانوا ينهبون كنائسنا وأديرتنا ويقضون علينا في كل مكان انبسط سلطانهم عليه، أرسل من الجنوب أبناء إسماعيل كي ينقذنا بواسطتهم، ولم يكن بالفضل اليسير إنقاذنا من قسوة الرومانيين، ومن شرهم وغضبهم، ومن حسدهم الفظ، والأخذ بيدنا إلى ظلال الأمن والراحة التي ننشدها»(6).
وهكذا الحال في البلاد التي فتحها المسلمون فخلّصوا أهلها من نير الطغاة وحرروهم من أغلال الظلم وأنقذوهم من الاضطهاد الديني وانتشلوهم من براثن العنصرية البغيضة، وعندما ضعفت شوكة المسلمين نتيجة تفرقهم واختلافهم، كشر الطامعون عن أنيابهم وبدأوا في غزوهم، لكن الغزاة كانوا مفتقدين تلك المبادئ السامية التي ملأت قلوب المسلمين من العفو والتسامح، وشمروا عن سواعدهم ليرتكبوا مذابح يندى لها الجبين، ومن ثم رأينا من يقرأ التاريخ ليكتشف أن التسامح صفة لم يتصف بها سوى المسلمين فقط، قال روبرتسون في كتابه «تاريخ شارلكن»: «إن المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وإنهم، مع امتشاقهم الحسام نشرا لدينهم، تركوا من لم يرغبوا فيه أحرارا في التمسك بتعاليمهم الدينية». وقال ميشود في كتابه «تاريخ الحروب الصليبية»: «إن القرآن الذي أمر بالجهاد متسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وقد أعفى البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب، وحرم محمد قتل الرهبان؛ لعكوفهم على العبادات، ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس، بينما ذبح الصليبيون المسلمين وحرقوا اليهود بلا رحمة وقتما دخلوها»(7).
شهادة التاريخ
هل يمكن بعد كل ما سجله التاريخ من سماحة المسلمين، التي هي نتاج لدين نزع من نفوس أتباعه شرور الحقد والكراهية ووضع لهم مبادئ حقوق الإنسان في السلم والحرب وألزمهم باحترامها، أن نصدق مستشرقا مثل غيومان لوستير حين يهذي قائلا: «إن هؤلاء العرب قد فرضوا دينهم بالقوة وقالوا للناس أسلموا أو موتوا، بينما أتباع المسيح ربحوا النفوس ببرهم وإحسانهم؟!»(8).
إن الرد على هذا المستشرق وغيره من الذين حادوا عن منهج البحث العلمي واتبعوا أهواءهم سهل وميسور، فكل ما علينا أن نقارن بين فتوحات المسلمين وبين حروب غيرهم لنرى البون الشاسع بين التسامح في أسمى معانيه والوحشية والهمجية في أبشع صورها، وسأعرض هنا فقط لمقارنة سريعة بين ثلاثة مشاهد تاريخية تجلي الحقيقة وتبرز الفارق بوضوح: أولها للخليفة الأول أبي بكر الصديق وهو يوصي جيش أسامة بن زيد قائلا لهم: «لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا أو شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له»(9).
ولنقارن هنا بين هذه الوصية وما اشتملت عليه من مبادئ التزم بها جنود الإسلام في حروبهم؛ حفاظا على حقوق الإنسان وكرامته، وبين المشهد الثاني الذي يتمثل في ما فعله جنود الحروب الصليبية حيث «النساء كن يقتلن طعنا بالسيوف والحراب، والأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم ويقذف بهم من فوق الأسوار، أو تهشم رؤوسهم بدقها بالعمد، وذبح السبعون ألفا من المسلمين الذين بقوا في المدينة، أما اليهود الذين بقوا أحياء فقد سيقوا إلى كنيس لهم، وأشعلت فيهم النار وهم أحياء»(10).
أما المشهد الثالث فيأتي لنرى ما فعله المسلمون بعد أن من الله عليهم بفتح بيت المقدس بقيادة صلاح الدين، والحقيقة أن ما حدث لم يكن مستغربا من قوم اتبعوا نهج نبيهم في التسامح والرحمة والعفو ونأوا بأنفسهم عما يشينها من رغبات في الثأر والانتقام ولو من تلك الجريمة البشعة التي فعلها ريتشارد قلب الأسد حين أمّن ثلاثة آلاف أسير مسلم ثم أمر بذبحهم جميعا وتبعه القائد الفرنسي، تقول المستشرقة الألمانية زيجرد هونكة: «وحين تمكن صلاح الدين الأيوبي من استرداد بيت المقدس (583هـ/1187م) التي كان الصليبيون قد انتزعوها من قبل (492هـ/1099م)، بعد أن سفكوا دماء أهلها في مذبحة لا تدانيها مذبحة وحشية وقسوة، فإنه لم يسفك دم سكانها من النصارى انتقاما لسفك دم المسلمين، بل إنه شملهم بمروءته، وأسبغ عليهم من جوده ورحمته، ضاربا المثل في التخلق بروح الفروسية العالية»(11).
والحقيقة أنها أخلاق الإسلام التي جعلت التاريخ يسطر صورا مشرقة لمواقف تفيض بالرحمة والإنسانية التي شملت الجميع تحت راية هذا الدين العظيم.
الهوامش:
1 – توماس أرنولد، الدعوة إلى الإسلام بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1971م، ص:69 و70.
2 – أبو هلال العسكري، معجم الفروق اللغوية، تحقيق: محمد إبراهيم سليم، القاهرة، دار العلم والثقافة، ص:234.
3 – محمد بن جرير الطبري، جامع البيان في أحكام القرآن، تحقيق: أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، 1420هـ، ج23، ص:323.
4 – حاشية ابن عابدين المسماة «رد المحتار على الدر المختار»، بيروت، دار الفكر، 1412هـ، ج4، ص:171.
5 – غوستاف لوبون، حضارة العرب، القاهرة، مؤسسة هنداوي، 2013م، ص:138.
6 – د. محمد عمارة، جارودي والفتوحات الإسلامية، الأهرام، 27 يونيو 2013م.
7 – غوستاف لوبون، حضارة العرب ص:137 و138.
8 – شوقي أبو خليل، الإسلام في قفص الاتهام، دمشق، دار الفكر 1982م، ط5، ص:93.
9 – تاريخ الطبري، بيروت، دار التراث، ط2، 1387هـ، ج3، ص:227.
10 – ول ديورانت، قصة الحضارة، بيروت، دار الجيل، 1988م، ج15، ص:25.
11 – زيجرد هونكة، الله ليس كذلك، القاهرة، دار الشروق، 1996م، ص:34.
___________
* المصدر: الوعي الشبابي.
[ica_orginalurl]