الإيمان بالكتب السابقة المنزلة على الرسل لا يقتضي إقرار ما يوجد بأيدي اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل، فإنها بُدلت وحرفت، والذي لم يصل إليه التحريف نسخ بالقرآن…
(مقتطف من المقال)
د. أمين عبد الله الشقاوي
الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ:
فمن أركان الإيمان الستة التي يجب على المؤمن الإيمان بها: الإيمان بالكتب السماوية التي أنزلها الله على رسله، قَالَ تَعَالَى: “آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ” (البقرة:285).
والإيمان بالكتب المنزلة على الرسل هو التصديق بأن هذه الكتب من عند الله أرسل بها رسله إلى الخلق لهدايتهم، وإقامة العدل بينهم، قَالَ تَعَالَى: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ” (الحديد:25)، وقَالَ تَعَالَى: “كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ” (البقرة:213).
قال ابن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية: وأما الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين، فنؤمن بما سمى الله تعالى منها في كتابه من التوراة، والإنجيل والزبور، ونؤمن بأن لله تعالى سوى ذلك كتبًا أنزلها على أنبيائه لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله، وأما الإيمان بالقرآن فالإقرار به، واتباع ما فيه، وذلك أمر زائد على الإيمان بغيره من الكتب، فعلينا الإيمان بأن الكتب المنزلة على رسل الله أتتهم من عند الله، وأنها حق، وهدى، ونور، وبيان، وشفاء.
قال تعالى عن التوراة وهي أعظم كتب بني إسرائيل أنزلها الله على موسى عليه السلام، قَالَ تَعَالَى: “إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ” (المائدة:44)، وقَالَ تَعَالَى: “وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ” (الأعراف:145)، قال جمع من المفسرين: إنها التوراة.
وقَالَ تَعَالَى: “وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ” (الأعراف:154)، قَولُهُ تَعَالَى: “وَفِي نُسْخَتِهَا“: قال الشنقيطي رحمه الله: أي: المكتوب فيها من التوراة من كلام رب العالمين، وفيه “هُدًى” أي: دلالة وإرشاد إلى الخير، ورحمة تقي عذاب الله، وسخطه لمن عمل به، وقيل: إن التوراة هي صحف موسى.
أما الإنجيل فهو الذي أُنزل على عيسى وهو مصدق للتوراة، ومتمم لها، قال تعالى عنه: “وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِين” (المائدة:46)، قال ابن كثير: وجعلنا الإنجيل هدًى يُهتَدَى به، “وَمَوْعِظَة” أي: وزاجرًا عن ارتكاب المحارم والمآثم.
والزبور هو الكتاب الذي أنزله الله على داود، قَالَ تَعَالَى: “وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا” (النساء:163). وصحف إبراهيم هي الصحف التي أنزلها الله على إبراهيم، قَالَ تَعَالَى: “إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى” (الأعلى:18-19).
والكتب السماوية السابقة أصابها التحريف، والتبديل، والتغيير، قال تعالى عن اليهود الذين نزلت عليهم التوراة: “قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ” (المائدة:41).
والكتب السابقة كانت وقتية، وخاصة بالأمم التي نزلت فيها، ولذلك لم تأخذ صفة الدوام، ولا تكفل الله بحفظها.
وقد بشرت الكتب السابقة بالنبي صلى اللهُ عليه وسلم، قَالَ تَعَالَى: “الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ” (الأعراف:157). قال ابن كثير: وهذه صفة محمد صلى اللهُ عليه وسلم في كتب الأنبياء بشروا أُممهم ببعثته، وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم، يعرفها علماؤهم، وأحبارهم.
قَالَ تَعَالَى: “الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ” (البقرة: 146). ففي هذه الآية يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى اللهُ عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده. روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي اللهُ عنهما، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: أَجَلْ وَاللهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا، وَنَذِيرًا. وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا.
والقرآن آخر هذه الكتب وهو كلام الله، منه بدأ، وإليه يعود، وبه نسخت جميع الرسالات، والكتب التي قبله، وقد أنزله الله على نبينا محمد صلى اللهُ عليه وسلم، قَالَ تَعَالَى: “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ” (المائدة:48). وقَالَ تَعَالَى: “وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين” (آل عمران:85).
من آثار الإيمان بالكتب السابقة:
1- العلم برحمة الله تعالى وعنايته بخلقه، حيث أنزل لكل قومٍ كتابًا يهديهم به.
2- ظهور حكمة الله تعالى، حيث شرع في هذه الكتب لكل أمة ما يناسبها وكان خاتم هذه الكتب القرآن العظيم، مناسبًا لجميع الخلق في كل عصر ومكان إلى يوم القيامة.
3- المستند لهذه الأمة في شهادتها على الأمم السابقة، أن الله أقام عليها الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
4- أن الإيمان بالكتب السابقة المنزلة على الرسل لا يقتضي إقرار ما يوجد بأيدي اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل، فإنها بُدلت وحرفت، والذي لم يصل إليه التحريف نسخ بالقرآن.
________________________________________________
المصدر: بتصرف في النص والعنوان عن شبكة الألوكة الشرعية
[opic_orginalurl]